banner
امريكا والبعث

يعلم أغلب المسؤولين والمتصدين في الساحة العراقية وجود ضغوط دولية مباشرة وعلنية واخرى سرية وغير مباشرة (تصاعدت أخيراً) على الحكومة العراقية وعلى السيد رئيس الوزراء وزعامات الكتل البرلمانية الكبرى وعلى مواقع اخرى في الدولة، لأنجاز بعض المطاليب في عدد من الملفات الحساسة التي تشكّل محوراً للتجاذب السياسي داخل البلد، ومن تلك الملفات ملف (البعث والبعثيين والأجتثاث) وملخص مطاليبهم تتمثل:

  1. أعادة بعثيين كبار الى مفاصل الحكومة العراقية
  2. أعادة بعثيين من المستويات الحزبية العالية والمتوسطة الى المؤسسة العسكرية
  3. أعادة ضباط الامن والمخابرات من البعثيين الى اجهزة الأمن والمخابرات (بل وتم أعادة ضباط مهمين في عهد / الحكومة المؤقتة / قبل ثلاث سنوات خاصة المختصين في عهد صدام بملف القوى الاسلامية وملف ايران وسوريا، وذلك بالتنسيق بين رئيس الوزراء العراقي انذاك وبين بعض الاجهزة الامريكية المعروفة)
  4. ويطالب البعض حتى بالسماح لحزب البعث السابق بالعمل السياسي

ولولا المقاومة الصلبة لعديد من مسؤولي (الحكومة الانتقالية) و(الحكومة الدائمة الحالية) والكتل البرلمانية الكبرى، لكانت أغلب تلك المطاليب قد تم فرضها من خلال الضغوط،، بالرغم من الرفض الشعبي الواسع لها في مختلف مناطق العراق. البعض يرى بأن مبررات تلك المطاليب الامريكية، قد تتمثّل:

  1. بسعي الادارة الامريكية الى ارضاء من يقاتلها بالسلاح في العراق، للتوصل الى اتفاق معها يقلل من حجم خسائرها ومن مدة بقائها، خاصة بعد تصاعد صراع الديمقراطيين مع الجمهوريين.
  2. وسعي الادارة الامريكية الى تحييد شرائح واسعة من قيادات وقواعد النظام السابق في صراعها المركزي مع من تسميهم (بالقاعدة) او الأرهاب الدولي وترى إن أستيعاب شريحة واسعة من البعثيين العراقيين في اجهزة الدولة وفي العملية السياسية يؤدي الى ابعادها عن البؤر الأرهابية وحرمان تلك البؤر من حاضنتها الاولى داخل العراق، ويضرب البعض مثلاً يعتبره ناجحاً لهذه السياسة وهو ما يجري هذه الأيام من تكتل للعديد من القوى التي تسمي نفسها مقاومة ضد المجموعات التكفيرية والقاعدة القادمة من وراء الحدود.
  3. كما وترى بعض الدوائر الامريكية ان أعطاء أمتيازات واسعة للبعثيين قد يؤدي الى تقليل مشاعر بعض أوساط السنّة في العراق بكونهم مهمّشين او انهم ليسوا شركاء حقيقيين في القرار، لأن أغلب القيادات البعثية والعسكرية والأمنية في عهد صدام (خاصة بعد تسلّم صدام الموقع الاول في الحزب والدولة والجيش في تموز1979) هم من السنّة ومن بعض مناطق ومدن المنطقة الغربية في العراق .. وإن قام صدام بتصفية القيادات من (الموصليين) و(السامرائيين) وحتى الجبور وهم من السنّة ايضاً.
  4. كما وينظر بعض المسؤولين او المخطّطين السياسيين الامريكيين الى حزب البعث (بوصفه حزباً علمانياً) قادراً على الحد من نفوذ الأسلاميين العراقيين الذين لا ترغب الادارة الامريكية بهيمنتهم على القرار السياسي العراقي، ويبدو ان اولئك المسؤولين الامريكان لا يهتمون ولا يكترثون بالثمن الباهظ الذي يدفعه الشعب العراقي جرّاء قيام حزب البعث بذلك الدور. وربما يتذكر بعض المتابعين، ان بعض هذه المخاوف الامريكية تعود لأكثر من عقد من الزمان قبل سقوط صدام، مثلاً في عام 1990 كتب (غراهام فولر) الباحث السابق في وكالة المخابرات المركزية، كتب دراسة لصالح مؤسسة (راند) للأبحاث والمرتبطة بوزارة الدفاع الامريكية (البنتاغون) حيث استعرض سيناريوهات التغيير في العراق، وحذر من أن سقوط حزب البعث في العراق، يفتح الباب على مصراعيه لأكتساح الساحة العراقية من قبل التيار الاسلامي (راجع كتاب: هل يبقى العراق موحداً..؟ غراهام فولر).
  5. وينظر مسؤولون أمريكان آخرين الى اهمية وجود مؤسسات أمنية عراقية قادرة على مواجهة النفوذ الايراني والتدخل السوري في العراق، وهذا لا يتحقق بنظرهم الا بأعادة بناء اجهزة الامن العراقية بالعناصر البعثية السابقة المتمرسة ولعقود من الزمن... حيث أن القوى الوطنية العراقية التي تشكل عناصرها جسم وقيادة الحكومة العراقية الحالية غير مستعدة لترتيب أولوياتها الداخلية كما تريد بعض الدوائر الخارجية وغير مستعدة لتكرار نفس النهج الصدامي في مجال السياسة الخارجية الذي كلّف الشعب العراقي مئات الالاف من الضحايا والمليارات من الدولارات، وتعتقد بأنه يمكن مواجهة التدخلات الخارجية وخاصة من الجيران برص الصف الوطني وتحقيق مشاركة حقيقية بين القوى العراقية الفاعلة في صناعة القرار واعتماد القواعد الدولية المتعارف عليها في حل النزاعات.

هذا ما يراه البعض من مبررات لتلك الضغوط والمطاليب الأمريكية في ملف (أجتثاث البعث) أما البعض الآخر من السياسيين العراقيين، ممن لا ينظر بحسن الظن والثقة بالسياسات الامريكية بسبب التجارب السابقة المماثلة في العالم، وممن يعتقد وبقاطعية أن الذي يحدد السياسات الامريكية في المقام الاول والأساس هو المصالح الامريكية (المشروعة وغير المشروعة) وليست مصالح الشعوب والدول المحتلة.

هذا البعض يوجز أسباب تلك الضغوط الامريكية المتواصلة على الحكومة العراقية وعلى مجلس النواب العراقي، لأعطاء أمتيازات للبعثيين ولأعادتهم الى مفاصل الدولة وأجهزة الأمن العراقية، نوجزها بالنقاط التالية:

  1. منذ البداية (أي في الاشهر القليلة التي سبقت يوم 9/4/2003 أو التي تلتها) كان هناك موقفين تجاه البعث والبعثيين في أوساط القرار في الأدارة الامريكية، أحدهما يؤمن بضرورة التعامل مع (البعث) كما تعاملت أوروبا وحلفائها مع (الحزب النازي) بعد الحرب العالمية الثانية، لكونه حزباً فاشياً في افكاره وسياساته ورجالاته، فحذف (الحزب النازي) من الواقع الألماني هو الذي مكّن (المانيا) و(أوروبا) و(العالم) من عيش حقبة سلام امتدت لاكثر من خمسين سنة ولا تزال (منذ 1945 ولحد الآن) وبعض قرارات الحاكم المدني (بريمر) تعبّر عن هذا الموقف. بينما يؤمن الموقف الآخر بضرورة استمرار دور حزب البعث (بشكل ما) في العراق لضرورات المصالح الامريكية المتوسطة والبعيدة المدى، كما خدم البعث المصالح الامريكية في السابق خاصة (بين 1975 – 1990). ولذا فأن عودة المسؤولين الامريكيين الى الضغط ثانية لأعطاء أمتيازات للبعثيين، قد يشير الى غلبة الفريق الثاني بسبب أخفاقات السياسة الامريكية في السنوات الاربعة السابقة في تحقيق المصالح الامريكية العليا في العراق، والعودة الى محاولة توظيف حزب البعث في العراق، بعد عجز الاجهزة الامريكية عن توظيف وترويض القوى الوطنية العراقية التي تشكّل المعادلة السياسية القائمة والحاكمة في العراق وبعد تصاعد مظاهر سخط شعبي على السياسة الامريكية في العراق.
  2. يعتقد أيضاً بعض السياسيين العراقيين، بأن الضغوط الامريكية بهدف إعطاء أمتيازات للبعث والبعثيين (وبعض النظر عن حملة التسويق الاعلامي والسياسي لها)، ليس لها أية علاقة بمشروع المصالحة الوطنية ولا بما يسمّوه بالصراعات الطائفية السنيّة الشيعية، ولا بتلبية مطاليب بعض المجموعات المقاومة للعملية السياسية وللوجود الامريكي في العراق؟! لكسبها الى العملية السياسية. وانما ترتبط بجوهر السياسة الغربية الثابتة والمعروفة والمتكررة في أغلب مناطق النفوذ، وخلاصة تلك السياسة، هي أن أغلب القوى الكبرى التي تحرص على أستمرار نفوذها في بلدان العالم، تعتمد عادة على ثلاث سياسات أساسية عامة هي:
    • أ. منع أستلام القوى الوطنية ذات القاعدة الشعبية الحقيقية والواسعة للقرار السياسي ولمفاصل السلطة في البلد، لأن تحكّم تلك القوى الوطنية المستقلة بالقرار وآليات العمل السياسي، يعني بداية النهاية لأي نفوذ خارجي ويعني بناء دولة وطنية حرة مستقلة قد تشكل عبئاً أضافياً على سياسات ومصالح القوى الكبرى في المنطقة.
    • ب. بناء مؤسسة عسكرية يُمكن توظيفها عند الحاجة لموازنة قوى الحركة الوطنية والشعبية، وهي الوسيلة المفضّلة لدى الولايات المتحدة وبريطانيا وغالبية القوى الكبرى (كما هو معروف في العالم الثالث منذ خمسينات القرن الماضي والى سنوات قريبة مضت) أي القيام بأنقلاب عسكري لأجهاض اي تغيير وتطور داخلي لا ينسجم والمصالح الدولية.
    • ج. بناء مؤسسة أمنية قمعية شرسة (تضم عناصر لا تتورع عن أرتكاب أبشع وأوسع الجرائم تجاه أبناء الشعب وكوادر الحركة الوطنية) لضرب نفوذ وفاعلية الحركة الوطنية، وتطويع الحركة الشعبية بالأتجاهات التي تتطلبها السياسات والمصالح الدولية غير المشروعة.
    وفي تقدير بعض دوائر القرار، فأن البعثيين هم الأكثر أهلية وأستعداداً لِلَعِبَ هذا الدور في العراق وتجربتي (أنقلاب شباط 1963 وما أعقبها من مجازر) و(أنقلاب 17 تموز 1968 وما أعقبتها من تصفيات واسعة لقيادات وكوادر كل القوى الوطنية العراقية وكذلك أنتهاكات وحشية لحقوق الانسان العراقي وبشكل لم يشهد تاريخ العراق المعاصر مثيلاً لها) تؤكد ذلك. لذا يعتقد البعض ممن لا يثقون كثيراً بالسياسات الدولية بان البعض يُريد بناء تلك المؤسسة العسكرية وتلك الأجهزة القمعية بعناصر البعث، تمهيداً لأنسحاب القوات المتعددة الجنسيات الجزئي أو الكامل من العراق في السنوات القادمة مع ضمان أستمرار النفوذ السياسي والامني والاقتصادي وحتى الثقافي لبعض القوى الكبرى في هذا البلد.
  3. كما أن الضغوط الأمريكية المتصاعدة على الحكومة العراقية لأعطاء البعثيين أمتيازات من خلال الالحاح على تغيير قانون اجتثاث البعث، في نظر البعض قد يعبّر عن تنازلات أمريكية جديدة للنظام الرسمي العربي (خاصة للأسرة السعودية الحاكمة التي تتمتع بعلاقات قوية مع بعض مراكز القرار في واشنطن)، فالسعودية خاصة وأغلب الحكومات العربية عامة (وبالرغم من الجرائم التي ارتكبها صدام بحق شعوبهم ودولهم) لا تنظر بعين الارتياح للتغيرات السياسية والأجتماعية والثقافية التي تجري في العراق بعد سقوط نظام صدام، وتقف مجموعة متشابكة من الاسباب والعوامل التأريخية والطائفية والاقتصادية والسياسية والامنية خلف ذلك الموقف الغريب لأغلب الحكومات العربية (وهو ما يفسّر مواقف فضائياتهم الأعلامية الشامت والمحرّض، وكذلك ما يفسّر تواطؤهم مع خطط تعبئة ودعم وتهريب الأرهابيين العرب الى العراق).

أن سعي الولايات المتحدة الامريكية الى زيادة دور بعض الحكومات العربية في العراق، ينسجم تماماً مع مطاليبها بأعادة دور البعث والبعثيين في الحياة السياسية في العراق، لأنها تعلم بأن غالبية القوى الوطنية العراقية وخاصة الحاكمة منها في هذه المرحلة لا تثق بسلامة نوايا وتوجهات غالبية الحكومات العربية.