banner
في ذكرى الأنتصار

العراقيون يُباركون ويستذكرون أيام الأنتصار الكبير

يعيش الشعب الأيراني المسلم والجارهذه الأيام ذكرى أنتصارالثورة الأسلامية الشعبية التي قادها العالم الرباني السيد الخميني رضوان الله عليه (11شباط /فبراير 1979) ،الثورة التي تمكّنت من أسقاط أقوى نظام قمعي ديكتاتوري مدعوم من قوى كبرى، وكان يمتلك أقوى الأجهزة الأمنية وأقوى وأكبر الجيوش وترسانات الأسلحة في منطقة الخليج والشرق الأوسط... بعد أشهر من المظاهرات السلمية التي بدأت صغيرة ومحدودة في بعض مناطق أيران ثم أمتدّت الى باقي المناطق لتشمل كل البلاد،وأزدادت أعداد المشتركين فيها حتى بلغت الملايين ، وتمكّنت من بناء نظام سياسي جديد كان و لازال محورا لأغلب أحداث المنطقة منذ أكثر من ثلاثين عاما ولحد الآن(الحرب العراقية الأيرانية وحرب الخليج الثانية أي غزو وتحرير الكويت وأنهيارالقوة العسكرية للعراق وبروزالمقاومة اللبنانية في مواجهة القوة والخطط الأسرائيلية وغزو أفغانستان وسقوط الأتحاد السوفيتي وغزو العراق وأزمة مضيق هرمز وأحتمالات الصراع العسكري الأمريكي الأسرائيلي الأيراني ...وأخيرا المفاوضات الغربية الأيرانية حول الملف النووي والدور الأيراني في سوريا والمنطقة ...الخ) .

بالتأكيد يختلف المحلّلين والمهتمين في الكثيرمن النقاط المتعلّقة بالثورة الشعبية الأسلامية و النظام الذي صنعته في أيران ،الاّ فــــــي نقطة واحدة لايختلف عليها أحد وهي أن تلك الثورة أسقطت أحد أهم ركائز النفوذ الأجنبي في المنطقة وأوجدت نظاما سياسيا مستقلا لاتتحكّم القوى الكبرى ولا أية قوى خارجية أخرى بقراراته وأتجاهاته .

كانت للخصوصية الدينية المذهبية للمجتمع الأيراني وللقيادة التي أدارت حركة الثورة الشعبية، دورا حاسما في اللحظات الحرجة والمصيرية من عمرالثورة وهي التي مكنتّها من الأنتصار، فشخصية قائدها وهوعالم دين وفقيه زاهد ومناضل ثوري متميّزذوصفات شخصية لايمكن توفّرها بسهولة في كل مجتمع مسلم ، بل ولايتكرربسرعة حتى في نفس المجتمع الأيراني .

هناك قواعد وقوانين للنجاح أوالأنتصار ذات جوهر واحد تتكرر في كل الساحات مهما كثرت وتنوّعت الخصوصيات والتباينات في المجتمعات أو الشعوب وفي أنظمتها المتجبّرة الحاكمة.. الغريب أنه وبالرغم من الفاصلة الزمنية التي لاتقل عن ثلاثين سنة بين الثورة الشعبية في أيران وبين الثورات الشعبية العربية (في تونس ومصر واليمن..الخ)، الاّ أن مراحلها الأولى متشابهة بل متطابقة جدا،وهو مايؤكّد وجود تلك القوانين في الثورات..، فالبداية أيضا كانت بسبب حادثة صغيرة بعيدة في الأطراف (مثل حرق الشاب التونسي الذي تعرّض للأهانة لنفسه في بلدة بعيدة ) ، ففي أيران أيضا كان حدث وفاة الأبن الأكبر للسيد الخميني (وكان آنذاك المعارض الأبرز للنظام الشاهنشاهي في أيران ) في ظروف غامضة عام 1978م في النجف الأشرف في العراق (وهو المنفى الأجباري الذي عاش فيه حوالي خمسة عشرعاما)، كان ذلك الحدث الشرارة (التي أحرقت السهل كله)كما يقول المثل الصيني ، حيث أقتنعت الكثيرمن الأوساط الشعبية الأيرانية آنذاك (ولأسبابها الخاصة) بأن الساواك (جهاز أمن شاه أيران المعروف) هو الذي قتل ابن السيد الخميني بواسطة السم لشلّ قدرة والده على الحركة حيث كان يعتمد عليه كثيرا...مما أدى ألى خروج مظاهرات فــي مدينة قم ذات الثقل الديني والتي تصدّت لها أجهزة الأمن الأيرانية بوحشية مما أدى الى سقوط عشرات القتلى والجرحى وأعتقال المئات...وكردّ على ذلك خرجت مظاهرات شعبية في مدن أيرانية أخرى وتكرّر سقوط القتلى والجرحى وبدأت الجماهير تحتفي في أربعينية كل شهيد وتكررت الصدامات حتى أنتشرت التظاهرات في كل المدن الأيرانية وأصبحت أعدادالمشاركين بمئات الآلاف ثم بالملايين ،وهنا شعر النظام الحاكم ومن قبله الأدارة الأمريكية آنذاك بخطورة الوضع،خاصة بعد أن شلّت الأضرابات صناعة النفط وتصديره (كان هناك مايزيد على خمسين ألف خبير ومستشار أمريكي في أيران يتحكّمون من وراء الستار بالجيش والأمن والنفط و الأقتصاد والتجسس على الأتحاد السوفيتي)، فتم عزل (أمير عباس هويدا) الذي بقي رئيسا لوزراء أيران لفترة لاتقل عن خمسة عشر عاما وتم أعلان الحكم العسكري في السادس من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1978م و أصبح (غلام رضاأزهاري) رئيس الأركان رئيسا لمجلس عسكري حاكم، وفي فترة الحكم العسكري أرتكبت قوات الأمن والجيش مجازر وحشية ضد المتظاهرين والمحتجين وأرتكبت جرائم بشعة لتشويه صورة المعارضة (مثل حرق سينما في عبادان وموت أربعمائة متفرج داخلها حرقا، للأيحاء بقيام الأسلاميين بذلك) وكانت تأثيرات كل ذلك عكسية، لأنكسار حاجز الخوف ولثقة الشعب بقيادة الثورة الشعبية...ولذلك سقطت الحكومة العسكرية وتم أختيار شخصية مدنية تم الترويج لها بوصفها مقرّبة من رجال الدين وكانت في الواقع من شخصيات النظام القديمة المقبولة أمريكيا،ولم تدم هذه الحكومة طويلا..وأستمرّت سياســـة تغيير الوجوه والوزارات حتى وصلت القوى الغربية الكبرى وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا الى قرار أرغام الشاه على مغادرة أيران (في أجتماع غواديلوب المعروف أوائل عام 1979) والمجيء بشخصية تمتلك شيء من تاريخ المعارضة للنظام ولكنها متعاونة معهم وكان شاهبور بختيارهو المرشح لذلك الدور،حيث كان تاريخه البعيد فيه شيء من رائحة المعارضة للشاه في خمسينيات القرن الماضي لأنضمامه الى الجبهة الوطنية ... ومن الطريف الذي يستحق الذكر، هو أن شاه أيران وعند أشتداد التظاهرات والأحتجاجات تحدث في الأعلام وقال أنه أستلم رسالة الشعب وفهمهما( وهو نفس النص الذي أستخدمه طاغية تونس بن علي الهارب بعده بحوالي ثلاثة وثلاثين عاما )..بعد أن كان الشاه يصف المتظاهرين بمجموعة عملاء للتحالف الأسود الأحمر ويقصد بهم تحالف علماء الدين مع الشيوعيين .... وفي هذه الأيام العظيمة لنستذكر بشيء من التفصيل أستراتيجية وسياسات قيادة الثورة الشعبية التي أعتمدتها ونجحت بواسطتها في أسقاط النظام الشاهنشاهي المتجبّر .

بادرت القيادة الأسلامية ( والتي كانت في الواقع تتبوّأ موقع قيادة الحركة الوطنية الأيرانية، بسبب عدة عوامل لسنا بصدد دراستها بالتفصيل ولكن وبأختصارأهم تلك العوامل عجز القيادات الحزبية المعارضة وبما فيها المجموعات الحزبية الأسلامية واليسارية عن كسب ثقة السواد الأعظم من الأيرانيين آنذاك أما لنخبويتها وعدم أستيعابها للمناخ العقائدي والأخلاقي للشعب الأيراني المعروف بتديّنه وأرتباطه القوي بعلماء الدين خاصة الذين يعيشون هموم الفقراء والمظلومين أو لأختيارها العمل السري المسلّح وتعرّضها لضربات موجعة من قبل أجهزة القمع الأيرانية المعروفة آنذاك بوحشيتها ،فضلا عن سقوط بعض رموزها وكوادرها في فخ مغريات السلطة كما حصل مع بعض اليساريين (حزب تودة) الذين تحولوا الى منظّرين لحزب السلطة راستاخيز( أي البعث!) ، نقول بادرت القيادة الى تنظيم وتوجيه التفاعل والتعاطف الشعبي مع قضية وفاة أو أستشهاد نجل السيد الخميني صوب دعم الأهداف الكبرى لنضالات الشعب الأيراني وقواه الوطنية، وكانت تتابع وتدرس وبدقة ووعي عاليين مراحل تطورالأحتجاجات الشعبية ونتائجها الميدانية وكذلك أوضاع النظام الحاكم وتفكّك بنيته وتدهور معنويات رأسه و أركانه وتطور مواقف القوى الدولية التي تسانده. لقد أظهرت قيادة الثورة التي كانت متمثـّلة آنذاك بالسيد الخميني رحمه الله وكبار معاونيه (وكانوا خليطا من علماء دين شباب وكهول و أساتذة جامعات وكسبة وطلاب وعمال وموظفين..)،حكمة عالية في أختيار الأهداف المركزية الكبرى للثورة ولحركة الجماهير الأيرانية وكذلك في تحديد أهداف كل مرحلة من مراحل الأنتفاضة أو الثورة وفي طرح المبادرات السياسية في الوقت المناسب وعدم السماح للنظام ولمن هم وراءه بأستغلال الفراغ وعامل الزمن ..، حتى الأجهاز الكامل عليه وأقامة النظام السياسي الجديد.الهدف المركزي هوأزاحة الشاه عن السلطة وتغيير نظامه بشكل كامل، لأنه وحسب تشخيص قيادة الثورة (وهي القيادة المعبّرة آنذاك عن آمال وآلام ومطالب الشعب) : كان نظاما غير شرعيا، سواء بالمعايير الديمقراطية المعاصرة أوبالمعايير الدينية ، ولأن الشاه وكبار قادة النظام كانوا تابعين أذلاّء للولايات المتحدة الأمريكية ، ونظامهم فاقد للسيادة و الأستقلال ...وكان تنفيذ الخطط والسياسات وخدمة المصالح الأجنبية والأمريكية بشكل خاص ،هو محور سياسات أيران الخارجية والداخلية ،ولأن الشاه ونظامه فشلا في تحقيق العدالة الأجتماعية وأحترام كرامة وحفظ حقوق المواطن وحفظ أستقلال الوطن، ولم ينجح في أداء أية واحدة من المهام التي تقع على عاتق الحكومة التي يجب أن تكون في خدمة المواطنين وحريتهم ورفاهيتهم وخدمة الوطن ومصالحه العليا ،ولأن الشاه ونظامه وأبرزرجاله أبدى الأساءة والمحاربة للأسلام (الهوية الدينية والحضارية للشعب الأيراني )، ولعلماء الدين وجماهير المؤمنين وللمؤسّسات والقيم والشعائرالدينية، وأخيرا لأن نظام الشاه وطيلة فترة حكمه التي أمتدّت لأكثر من نصف قرن(الأب والأبن ) برهن على عجزه عن أصلاح نفسه والتخلّص من عيوبه والتكيّف مع حاجات وتطورات ومطالب الواقع،ليس فقط لأنه لايعيش أستقلالية أرادته السياسية وأرتهان تلك الأرادة لدوائرقرارومراكز قوى سياسية وأمنية وأقتصادية أجنبية، بل ولأنه أيضا يعتمد في بقائه في الحكم على دعم الدوائر الخارجية ودعم مجموعات مصالح (معزولة شعبيا) لنخب عسكرية وأمنية ورجال أعمال في الداخل وعلى أستراتيجية قمع وأرهاب المواطنين ،وليس على آراء الشعب من خلال صناديق الأنتخاب... ولا على المؤسّسات الدستورية..أوالتعبير عن آمال وآلام الجماهير .

والى جانب شعار الثورة المركزي الداعي الى رحيل الشاه عن السلطة رفعت الجماهير وبتوجيه من قيادتها، شعار الحرية والأستقلال والجمهورية الأسلامية،ومع ذلك الاّ أن قيادة الثورة أعلنت وبوضوح أن هوية النظام الجديد يحدّدها الشعب في أستفتاء حـر بعد سقوط الشاه ونظامه. لقد كانت أهم الخطوط العامة لأستراتيجية قيادة الثورة في التحرك السياسي هي :

أولاـ المظاهرات والأحتجاجات والأضرابات والأعتصامات السلمية، بالرغم من القمع الوحشيالذي كانت تقوم به أجهزة الأمن وفيما بعد قوات الجيش..وسقوط الآلاف من الشهداء والجرحى والآلاف من المعتقلين، وبالطبع كان ذلك ثقيلا على قيادة الثورة، خاصة وهي تمتلك القدرة على الرد ولو المحدود(لوجود مجموعات معارضة مسلّحة وكذلك أوساط في القوات المسلّحة مستعدّة لتنفيذ أي تكليف من طرف قائد الثورة بلحاظ موقعه الديني الشرعي).أن خيار المواجهة السلمية مع النظام المتوحّش كان قرارا حكيما ومدروسا وبعيد النظر، ويستهدف تحقيق عدة أهداف حيوية تتطلبها المراحل اللاحقة للثورة وأبرزها :

  1. التعبئة الشاملة للشعب الأيراني في كل مناطق أيران (البلاد الشاسعة التي تضم أكثر من ستة وثلاثين مليون نسمة آنذاك أي عام 1978م )، وأستقطابها حول القيادة المتصدية وحول الأهداف الكبرى للثورة وحول الخلايا الثورية المنتشرة، وبالفعل تم وخلال أكثر من عام من المظاهرات والأحتجاجات السلمية التي يتم مواجهتها بالقوة المفرطة، تم بناء أكبر الشبكات المنظّمة لقواعد شعبية مليونية تؤمن بهدف مركزي واحد وتلتف حول قيادة ثورية أسلامية واحدة..تتحرك عندما تأمرها القيادة بذلك وتكسر حظر التجوّل وتمتنع عن الرد على قوات الأمن والجيش ..حسبما تحدّده القيادة العليا،وستكون تلك التشكيلات قاعدة النظام الجديد.
  2. السعي للمحافظة على أرواح المواطنين، لأن أعتماد الأساليب غير السلمية في المواجهة مع النظام المدجّج بالسلاح وبأمكانات القمع المتطوّرة ، كان سيؤدّي الى سقوط أضعاف أعداد المواطنين الذين أستشهدوا وكان سيؤدي الى مجازر أكبر بكثير من تلك التي حصلت خلال الأحتجاجات السلمية، وهو مايكشف الحرص العالي على عدم أراقة المزيد من الدماء.
  3. كان يمكن لأستخدام الأساليب غير السلمية أن يؤدي الى تشويه حقيقة الثورة وأهدافها و برامجها، وأتاحة الفرصة لأبواق النظام ومن وراءه لتصوير التحرك بوصفه صراعا مع قوى طامعة بالسلطة، ويجب أن لاننسى هنا أن النظام الشاهنشاهي تمكّن ولعقود من الزمن من عزل و أبعاد القيادة الأسلامية عن قواعدها الشعبية في الداخل..ومنع وصول صوتها الى الشعب .
  4. السعي لتحييد أوساط ومفاصل وأجهزة هامة داخل السلطة، كالقوات المسلّحة والأجهزة الأدارية للدولة، والمظلومين والدماء البريئة هي وحدها القادرة على ذلك ..وكما يقولون :أنتصار الدم على السيف ، وبالعكس كان يمكن أن يؤدي أعتماد الوسائل غير السلمية الى المزيد من التلاحم والألتفاف من قبل القوى المتردّدة في المواجهة حول النظام القائم لشعورهم بالخوف من القادم ...وفعلا نجحت قيادة الثورة الأسلامية في أيران في تحييد قطاعات كبيرة من القوات المسلّحة وغالبية البنية الأدارية للدولة فضلا عن بعض المسؤولين الذين لم يكونوا في صلب بنية الجهاز الحاكم المسؤول عن جرائم النظام ...

ثانيا ـ عدم السماح بتعدّدية القيادة العليا للثورة ، بمعنى المحافظة على وحدة القيادة والتي كانت متمثـّلة بالسيد الخميني ، لأن مقتل الأنتفاضات أو الثورات الشعبية هو في تعدد وتضارب قياداتها.وهذا الأمرلم يكن توجيها من فوق بل كان هو حصيلة أمر واقع، فالملايين من الجماهير الأيرانية لم تكن تعرف سوى السيد الخميني قائدا ذو مصداقية ومعبّرا بحق عن آمالها وآلامها.. ولذا فشلت كل محاولات الدوائر الخارجية الهادفة الى فبركة بعض القيادات المصطنعة بغرض خلق الأنقسامات والصراعات الجانبية وتضليل الجماهير الثائرة...علما بأن القيادة الأسلامية كانت منفتحة على كل القوى الوطنية المخلصة لقضية الحرية والأستقلال وأقامة النظام الذي يرتضيه الشعب..

ثالثاـ المنهج الواقعي في أدارة التحرك الشعبي وعدم التطرف في الشعارات أوتحميل الشعبمالايمكن أن يتحمّله ،على سبيل المثال كانت قيادة الثورة تجمع المال من تبرعات التجار المتعاطفين أومن الحقوق الشرعية (الزكاة والخمس وغيرها) وتصرف منه على عوائل العمال المضربين في مصافي النفط في عبادان أوفي المؤسّسات الأخرى،كما أنشأت صناديق المساعدة المالية أو العينية في مساجد البلاد المختلفة،وينقل البعض من شهود أحداث الثورة أن المحتاجين كانوا يأخذون مقدار مايحتاجون من تلك الصناديق ويعيدونها عند التمكّن.. وظهرت الواقعية في مستوى آخر عندما بدأت الحكومة المؤقّتة التي شكّلها قائد الثورة برئاسة بازركان بالأتصال في ذروة الأزمة بالدول التي كانت تشتري النفط الأيراني وطمأنتهم بأن النظام السياسي الجديد سوف يلتزم بنفس ضوابط بيع النفط الأيراني التي كانت سائدة قبل التغيير، كما فتحت خطوط أتصال وحوار مع عدد من ضباط القوات المسلّحة ورجال الدولة الذين لم تتلطّخ أيديهم بدماء المواطنين وطمأنتهم بعدم وجود أية نوايا لتصفيات أو تطهيرات أوحملات أنتقام ممّن كانوا يعملون مع النظام السابق، بل هي مستعدة لأستيعاب كل الطاقات المخلصة لوطنها.

رابعاـ المبادرة وبما يتناسب ومسؤولية القيادة وتطور الأوضاع ونضوج الظروف اللازمةللأنتقال الى مرحلة جديدة ومع تغير وتطوّر خطط وسياسات النظام ومن هم وراءه والأهتمام الكبير بعامل الزمن الثمين جدا (الفرصة سريعة الفوت بطيئة العود)..مبادرة القيادة كما ذكرنا كانت هي الأساس في توجيه وتعبئة مشاعر الغضب الشعبية التي أنطلقت كرد فعل على قتل نجل قائد الثورة في النجف الأشرف، توجيهها نحو دعم المطالب الأساسية للشعب الأيراني والمتمثلة بالحرية والأستقلال وبناء نظام العدالة الألهية، وعندما نجحت في تلك التعبئة المليونية وأثبتت لنظام الشاه وللقوى الدولية التي تدعمه وتقف وراءه ، قدرة تلك الملايين على فرض مطالبها وألتزامها بتوجيهات وأوامر قيادتها الشرعية..تحرّكت وبسرعة لطرد آخر حكومة قام الشاه بتشكيلها (حكومة بختيار)، وأعلنت الحكومة المؤقتة برئاسة مهدي بازركان و أمرت كل دوائر الدولة بطرد وزراء حكومة بختيار ومنعهم من الدوام وأستقبال وزراء الحكومة المؤقّتة وتنفيذ تعليماتهم لأدارة مرافق الدولة وتوفير الخدمات للمواطنين...ولم تقع في الفخ الأمريكي الذي عبّرت عنه رسالة الرئيس كارتر آنذاك والذي طلب فيها من قيادة الثورة منح بختيار فرصة ثلاثة أشهر فقط بزعم معالجة بعض الأوضاع ، بينما كانت الخطة الأمريكية الحقيقية تتمثل في قيام حكومة بختيار بعدة أجراءات وخطوات هدفها سحب البساط من تحت أقدام القيادة الأسلامية ، من قبيل ألغاء الملكية وأعلان الجمهورية وأغلاق سفارة أسرائيل وأطلاق سراح سجناء سياسيين والحل الشكلي للساواك (جهاز الأمن المرعب في زمان الشاه) وأجراء أنتخابات فيها هامش كبير من الحرية ...ولكن مع المحافظة سرا على أهم ركائز النظام السابق وعلى أهم ركائز النفوذ الأمريكي والغربي في أيران ...كما حصل في العديد من الدول العربية والأسلامية التي وقعت فيها أنقلابات عسكرية في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي ...

وأقوى مبادرات القيادة الأسلامية تمثّلت بتوجيه الجماهير المليونية لكسر قرار منع التجول الذي أصدرته الحكومة ليلة أنتصار الثورة (10/2/1979) والتواجد في شوارع المدن والقرى ، وأيضا بتوجيهها للدفاع عن منتسبي القاعدة الجوية في احدى مناطق العاصمة طهران،والذين حاولت قوات الحرس الشاهنشاهي (جاويدان أي الخالدون) قمعهم لأعلانهم الأنحياز الى صف الثورة وقيادتها...فالأدارة الأمريكية وبعد أحساسها بأنهيارمعسكر الشاه وعدم نجاح مخطط حكومة بختيارفي خداع الجماهير وكسب الوقت ، بادرت الى أرسال أحد كبار جنرالاتها (روبرت أ.داج هايزر وكان يشغل موقع معاون قائد القوات الأمريكية المستقرة في اوربا) الى طهران في مهمة سرية تتمثّل بالعمل على ضمان تأييد كبار جنرالات الشاه لحكومة بختيار والسعي للأيحاء بوقوف القوات المسلحة على الحياد في الصراع بين حكومة بختتيار وحكومة بازركان المدعومة من قبل الأمام الخميني (بهدف الحفاظ على المؤسّسة العسكرية المعروفة بولاء قياداتها العليا للسياسة الأمريكية، ومنع أنقسامها وتشرذمها والأحتفاظ بها كورقة أحتياطية تستخدمها في الوقت المناسب ضد الثورة ونظامها الجديد وهو مانجح في مصر في شباط/فبراير 2011م) ، ومن ثم تنفيذ أنقلاب عسكري في حال فشلت كل الخطط الأخرى، وبالفعل في صباح يوم العاشر من شباط /فبراير 1979 م أعلنت قيادة الجيش وقوفها على الحياد في الصراع بين بقايا نظام الشاه وبين حكومة الثوار ، وأعلنت قرار بفرض حظر مبكر للتجول يبدأ عصرا وتوجهت قوات الحرس الملكي للقضاء على تمرّد قاعدة القوة الجوية في طهران...

ولكن وكما قلنا ولوعي قيادة الثورة ولمعرفتها بحقيقة نوايا بقايا نظام الشاه ونوايا الدوائر الأمريكية، لم تنخدع بأعلان الجيش بوقوفه على الحياد (بالطبع الجيش هو جزء من الشعب وهومنحاز الى صفوف الشعب ، ولكن الغالبية من قياداته تكون عادة جزءا من النظام الدكتاتوري وأداته في أرغام الجيش على ضرب الشعب..و غالبا ما تكون تلك الغالبية مرتبطة بدوائر خارجية نافذة )، وعلمت أن التبكير بساعة منع التجوال هو علامة بدء مخطط الأنقلاب العسكري الذي كان سيقوم بتنفيذ مجازر واسعة بحق الجماهير الثائرة، فأمرت الجماهيربكسر حظر التجوال والتواجد في الشارع بالرغم من برودة أيام الشتاءو والدفاع عن قطاعات الجيش التي أنحازت الى الثورة وبالفعل في ليل 10/2/1979 ونهار يوم 11/2/1979 م هاجمت الجماهير المسلّحة الموالية للسيد الخميني معسكرات ومراكز الشرطة وسيطرت عليها وكان ذلك اليوم اي 11/2/1979 (الموافق بالتقويم الأيراني 22 بهمن عام 1357 هجري شمسي) هو يوم أنتصار الثورة وسقوط نظام الشاه. أن تشخيص الموقف الصحيح والمبادرة السريعة الى تنفيذه في الواقع ، هي من مصاديق كفاءة القيادة وأستقامتها ، وستعلم قيادات بعض ثورات الربيع العربي الخطأ الكبير الذي أرتكبته عند توقفها في آخر الطريق وعدم أتخاذ المواقف الجذرية المطلوبة عندما كانت الجماهير في ذروة تفاعلها وصمودها وتهيؤها..والثمن الباهض الذي سيدفعه الشعب وقواه الوطنية لاحقا عند قبولها وسكوتها عن خديعة أدعاءات وقوف القيادات الأمنية والعسكرية للنظام القديم على الحياد أو أدّعاءات حمايتها للثورة وللثوار، وهي التي ولغت ولعقود من الزمن في دماء المواطنين ... أن أهم أسباب حكمة وشجاعة القيادة الأسلامية عند أتّخاذها لتلك المواقف المصيرية في اللحظات الحرجة والخطيرة ،هي حملها للعلم الأسلامي الذي يمثّل المعيار في التمييز بين الحق والباطل وبين الحلال والحرام (ليس فقط في مجال فقه العبادات والمعاملات بل في مجال فقه الجهاد والدفاع عن الأسلام والمسلمين وأوطان المسلمين )،و أستقامتها ونزاهتها الأخلاقية أو بالتعبير المتداول أمتلاكها للعدالة والتقوى ،وأحاطتها التفصيلية والدقيقة بالواقع القائم ، خاصة فيما يتعلق بمجال حركتها،و كفاءتها التنظيمية والأدارية وحسن تدبيرها وأمتلاكها لخصائص المدير أو القائد الناجح،و وعيها السياسي العالي والعميق ودراستها لتجارب الآخرين ، خاصة وعيها لمكائد وخدع و أساليب الأعداء الماكرة، وأمتلاك الحصانة السياسية والأخلاقية ضدها.

من المناسب الترحّم هنا على شهداء الشعب الأيراني المسلم الذين سقطوامن أجل أسقاط (كسرى عصره شاه أيران) في 11/2/1979م ،وثورتهم ودولتهم تعيش الذكرى الخامسة والثلاثين من عمرها...كم كان سروري كبيرا عندما قرأت الآيات الكريمة المقتبسة من سورة الدخان {بسم الله الرحمن الرحيم : كم تركوا من جنات وعيون (25) وزروع ومقام كريم (26) ونعمة كانوا فيها فاكهين (27) كذلك وأورثناها قوما ءاخرين (28) فما بكت عليهم السماء والأرض وماكانوا منظرين (29) صدق الله العلي العظيم } ...قرأتها وهي معلّقة بلافتة كبيرة على قصر شاه أيران في شمال العاصمة طهران ... وهي عبرة لكل الظالمين والحاكمين .

يرتبط الشعبين الجارين المسلمين العراقي والأيراني بروابط قديمة ووثيقة وعديدة، منها :الدين والتاريخ والجغرافية (1458 كم طول الحدود المشتركة) والأنهار والمنظومات البيئية المشتركة وبغض النظرعن نوع نظام الحكم في كل من أيران والعراق ، فقد كان الشعبين والدولتين ، ومايزالان يعانيان من تحديات أمنية وأقتصادية وسياسية وثقافية وحتى بيئية (المياه والعواصف الترابية والتصحّـر)مشتركة،بالطبع هناك روابط ’مضافة بين بعض شرائح المجتمع العراقي وبعض شرائح المجتمع الأيراني..مثلا ’كرد العراق (سواءفي كردستان العراق أوالكرد الفيلية) لهم روابط عشائرية وأجتماعية وثقافية مشتركة وقديمة مع ’كرد كردستان أيران و’كرد أيلام وباختران (كرمنشاه) ،كما أن الكثيرمن العشائرالعربية في محافظة العمارة ومحافظات جنوبية عراقية’أخرى لها أمتدادات عشائرية في بعض مدن أيران مثل الأهواز والخفاجية وعبادان وخرمّشهر...وهكذ اترتبط بعض الطوائف المسيحية العراقية بنظرائها في أيران (أورمية وغيرها)، وتقع مقامات بعض أئمة المذاهب الأسلامية السنية في بغداد وجلّهم من أصول أيرانية ،كما يستقر عدد من الفقهاء والمراجع الدينيين الأيرانيين الكبارلدى أتباع أهل البيت ع في النجف الأشرف حيث الحوزة العلمية العريقة التي يمتد عمرها لأكثر من ألف سنة،بل وكان لبعض علماء الدين الأيرانيين الذين درسوا في حوزة النجف الأشرف دورا مهما في تأسيس الحوزة العلمية المعروفة في مدينة قم المقدسة (لايزيد عمرها على المائتي عام ) ،وأذا نعود لفترات تاريخية أقدم من ذلك، فتوجد معلومات موثقة عن تأسيس ’مدن مقدسة أيرانية (مثل مشهد حيث مرقد الأمام علي بن موسى الرضاع ،ومثل ’قم حيث مرقد أخت الأمام الرضاع )، على يد عشائرعربية تم نفيها من العراق الى ايران في العهد العباسي ،كما لعب فقهاء عراقيون كبارمن الحلّة دورا كبيرافي نشرمذهب أهل البيت ع في ايران .كما لعب فقهاء كبار مقرّهم في العراق دورا قياديا وثوريا مؤثرا في أحداث سياسية هامة في ايران ،كماهوالحال فيما ’سمّي بثورة التنباك التي بدأت بفتوى من المرزا الشيرازي من سامراء... وطيلة قرون منصرمة كان الملايين من العراقيين والأيرانيين يقومون بزيارة العتبات المقدسة لأئمة أهل البيت ع الموجودة في البلدين ...ومايؤدي ذلك من نشوء وتطور علاقات دينية وأجتماعية وأقتصادية وثقافية راسخة ...

تلك الروابط والتأثيرات المتبادلة بين الشعبين والبلدين،جعلت العراق البلد العربي الأول المرشح للتأثـّر والتفاعل مع حدث الثورة الضخم في البلد الجار..،وبالطبع أمتدّ تأثيرالثورة الى العديد من الدول العربية والأسلامية (وهوماعكسته أحداث تونس والجزائر و مصر والمغرب والسعودية والبحرين ولبنان وغيرها في الثمانينات من القرن الماضي .....) .

قبل انتصار الثورة الشعبية في إيران بأشهر تصاعدت وبوتائر عالية الفعاليات السياسية والجهادية المعارضة لنظام البعث العراقي، وبدأ النظام الحاكم في بغداد يخشى كثيرا على مستقبله ومصيره .وبعد انتصارها في شباط 1979، تطورت الحركة الثورية للشعب العراقي كماً ونوعاً بسبب المعنويات الكبيرة الحاصلة نتيجة الانتصار في الجارة أيران . وفي قبال ذلك بدأت السلطة الصدامية بحملة قمع مروّعة لم يشهد العراق لها مثيلا حيث تم إعدام الآلاف من الوطنيين من الإسلاميين وغيرهم وسجن وتعذيب مئات الآلاف وتشريد وتهجير أوساط شعبية واسعة وإبعادها الى الخارج .ونتيجة لذلك بادر العشرات من الكوادر القيادية ومن المستويات الأخرى في الحركات الإسلامية العراقية ومن علماء الدين العراقيين الى الاختفاء عن الأنظار والهجرة الى الخارج، وخاصة الى إيران وسوريا وما أن أنقضت الأشهر الأولى من عمر الجمهورية الإسلامية الايرانية المولودة حديثا، حتى صارت مدن (قم و مشهد المقدستين والأهواز وعبادان وطهران وإيلام وأصفهان وخرمشهر) وغيرها من المدن الإيرانية محل أقامة ومعيشة للعشرات من الكوادر الإسلامية العراقية المعارضة للنظام البعثي وكذلك للآلاف من العوائل العراقية المهاجرة أو المهجّرة قسرا. ونتيجة لهذا التواجد انبثقت العديد من المقرات للجماعات العراقية المعارضة وتأسست أيضا ما يُمكن تسميته بمنظمات مجتمع مدني ربما كان بعضها مدعوما من بعض الأحزاب او علماء الدين، بهدف إغاثة ورعاية العراقيين المهاجرين والذين بدأت أعدادهم بالازدياد السريع وما يتطلّبه ذلك مستلزمات المعيشة وفرص العمل والوثائق الرسمية والمستوصفات والمدارس ، واستفادت بعض الحركات الإسلامية والكردية العراقية المعارضة من أجواء الحرية والأمان المتوفرة في إيران في العهد الجديد ، لبدء فعاليت سياسية وإعلامية وجهادية ضد السلطة الحاكمة في بغداد أنطلاقا من الأراضي الإيرانية ، خاصة وان بين العراق وإيران حدود برية طويلة تمتد لأكثر من ألف كيلومتر. .. وقبل هذه الانطلاقة العراقية المعارضة من الأراضي الإيرانية ،كانت الأجهزة الأمنية العراقية هي البادئة ومن وقت مبكر جدا ومن الأيام الأولى لانتصار الثورة الإسلامية (بل وحتى في الأشهر الأخيرة من عمر النظام الشاهنشاهي الإيراني) بإرسال المخربين وإرسال السلاح وإرسال كوادر حزبية بعثية وضباط مخابرات الى الأراضي الإيرانية وخاصة الى المناطق العربية في جنوب إيران ، وقامت أيضا بدور كبير في عمليات تهريب كبار ضباط الجيش الإيراني المنهار وكبار المسؤولين الموالين للشاه مع عوائلهم من خلال السفارة العراقية في طهران وذلك بعد سقوط الشاه ، وتحوّل العراق في تلك الفترة الى الملجأ الآمن القريب لرجال النظام المنهار في إيران وتحول بعدها الى غرفة العمليات المتقدمة للقوى الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية في خططها وسياساتها لمواجهة تداعيات انهيار أحد أهم ركائزها في المنطقة وكذلك لمنع تكرار التجربة في العراق.

لم تكن السلطات الإيرانية الجديدة تولي أهتماماً كبيرا آنذاك بالاتصال او التعاون مع الشخصيات والأحزاب العراقية المعارضة التي بدأت تتحرك في طهران وقم المقدسة وحتى على الحدودلأنشغالها بمشكلاتها الداخلية ولكن كان هناك عدد من المسؤولين الإيرانيين من الصف الثاني او الثالث ممن عاشوا سنوات طويلة مع قائد الثورة في النجف الأشرف في العراق وكذلك عدد من الكوادر الحركة الإسلامية العراقية من الذين وُلدواهُم وآباءهم وأجدادهم في العراق ولكن لهم أصول إيرانية..هؤلاء لعبوا دورا في إيجاد قنوات اتصال وتعاون بين مؤسسات النظام السياسي الجديد في إيران وبين علماء الدين وقادة الأحزاب الإسلامية العراقية الذين اتخذوا من إيران دار أقامة ومنطلق عمل ...ولكن الأمور تغيرت جذريا بعد شن النظام البعثي حربه العدوانية على إيران في أيلول 1980 التي كانت حرب نيابة عن المصالح الغربية والإسرائيلية أو كما وصفها صدام عام 1989 بأنها (فتنة ورّطه فيها الشياطين الكبار( الحرب حوّلت العراقيين في إيران وخاصة قيادات الحركات الإسلامية والكردية العراقية وعلماء الدين العراقيين من ضيوف عاديين في إيران الى عملة نادرة وبضاعة ثمينة ومرغوبة جدا خاصة وان القائد الأعلى للثورة وللدولة (أي الأمام السيد الخميني رحمه الله) كانت له انطباعات ومشاعر جيدة تجاه العراقيين تكونت من خلال معايشته المباشرة لهم خلال فترة إقامته في النجف الأشرف التي امتدت من 1963 وحتى 1979م ، والأهم من ذلك حاجة إيران وهي في حرب دفاع شاملة ضد العدوان البعثي ، الى قوى وشخصيات لها خبرة وقدرة في مواجهة ذلك النظام ،لذا تم إبداء استعداد كبير لدعم فعاليات أولئك المعارضين ، خاصة بعد أن فتح النظام الصدامي أبواب العراق أمام منظمة (مجاهدي الشعب) الخطيرة التي قتلت العشرات من المسؤولين والمئات من المواطنين الإيرانيين وأصبحت بمثابة الطابور الخامس للنظام البعثي داخل إيران.

القوى والشخصيات العراقية الوطنية المعارضة الخارجة لتوّها من حمامات الدم في العراق ، وبعد إعدام قياداتها وعلى رأسها الشهيد السيد محمد باقر الصدر رضوان الله عليه، تلك القوى المعروفة بإمكاناتها المتواضعة والمُنهَكة جرّاء عقود من سياسات الملاحقة والقمع والحصار على يد النظام البعثي... كانت تبحث عن حلفاء وإمكانات داخل وخارج العراق لكي تتمكن من لملمة صفوفها وإعادة تنظيم تشكيلاتها والتهيؤ لمرحلة جديدة من المواجهة مع نظام صدام للدفاع عن استقلال العراق وحرية وحقوق ومصالح شعبه.

ومع ان تلك القوى والشخصيات العراقية المعارضة حاولت مدّ يدها وبناء العلاقات والجسور مع كل حكومات وشعوب الدول المجاورة، إلا إن بعض الحكومات كانت متواطئة مع صدام وبعضها الآخر خائفة من ردود فعله، سوريا وحدها كانت وقبل نجاح الثورة في إيران تفتح أبوابها ومنذ أوائل السبعينات من القرن الماضي للمعارضين العراقيين ولبعض مكاتبهم السياسية... بعد سقوط الشاه وبعد شن الحرب العدوانية على إيران وبعد استحكام العداء بين النظام السوري بقيادة حافظ الأسد، خاصة بعد قيام مخابرات صدام بتفجير القنابل والسيارات المفخّخة في دمشق...بعد كل ذلك أصبحت الجمهورية الإيرانية الإسلامية والجمهورية العربية السورية الدولتين المجاورتين الوحيدتين اللتين يُمكن للقوى العراقية المعارضة للنظام البعثي التحالف معهما والانطلاق منهما في فعالياتها السياسية وغير السياسية.

مع بداية الحرب العراقية – الإيرانية بدأت الكثير من فرص الدعم والإسناد تتوفر في الساحة الإيرانية سواء من دوائر ومؤسسات حكومية أو من أوساط شعبية ودينية ومنها الحرس الثوري وهي التشكيلة الحديثة الولادة آنذاك والتي كان اغلب عناصرها من الشباب المتدين ذو الولاء المطلق لقائد الثورة وللمؤسسة الدينية هناك.وكانت أبرز سمات الظرف السياسي السائد آنذاك في إيران :

  • نظام سياسي إسلامي جديد في إيران، يتعاطف اغلب قادته مع تطلّعات الشعب المسلم في العراق
  • حرب عدوانية شاملة مفروضة على إيران من قبل النظام البعثي الصدامي .
  • أحزاب وقوى عراقية معارضة لنظام صدام (في غالبيتها إسلامية شيعية وكردية) تبحث عن حلفاء وعن دول وحكومات مساندة وعن دعم بالإمكانات ودعم سياسي...
  • جالية عراقية تنمو إعدادها بسرعة كبيرة، وهي تمثل معيناً لا ينضب للطاقات البشرية...

طبعا قيادات عراقية وطنية من أبرزها السيد محمد باقرالحكيم (رض) كانت تعتقد بان العمل والتحرك والمواجهة والقرار هو من مسؤولية العراقيين، واذا اراد البعض المساعدة فيمكنهم تقديم الدعم والاسناد حتى ولو كانوا من اقرب الحلفاء والاصدقاء وكان الكثير من قادة الاحزاب الاسلامية والكردية يوافقون السيد الحكيم في قناعته هذه .

عشرات الآلاف من العراقيين المهجّرين قسرا ومن المهاجرين والفارين من قمع و’ظلم النظام البعثي ،عاشوا بأمان وحرية في المدن الأيرانية المختلفة وخاصة في العاصمة طهران و’قم ومشهد ،وترعرع أبناءهم في البيئة المجتمعية الأيرانية وتعلموا في مدارسها حتى صارت الفارسية اللغة الأولى للكثير منهم بالرغم من عدم حصولهم على الجنسية الأيرانية (كما هو حال أبناء العراقيين الذين لجئوا الى أوربا) ،وبمقدارما كانت تسمح به الظروف كانت الجاليات العراقية في أيران تسعى لتكوين مجمّعاتها ومحلاتها السكنية الخاصة بها (كماهوالحال في منطقة دولت آباد في جنوب طهران )وكانت لهم مدارسهم العربية ومستوصفاتهم وتعاونياتهم الخاصة بهم..وبرزت من بين صفوفهم شخصيات ووجاهات سياسية وأجتماعية وثقافية معروفة ،يستذكر العراقيون دور الرعاية والخدمة التي نهض به علماء وفقهاء أيرانيين كبارفي المدن الأيرانية المختلفة،خاصة أولئك الذين قضوا شطرامن حياتهم العلمية في الحوزة العلمية في النجف الأشرف ...أضافة الى تجارخيّرين كانوايوفّرون الغطاء المالي لكميات هائلة من المواد الغذائية التي كانت توزّع بأنتظام وطيلة سنوات على العوائل العراقية الفقيرة والمحدودة الدخل...فضلا عن التسهيلات والخدمات التي كانت توفرها دوائرالحكومة الأيرانية المختلفة ، بالطبع كان بالأمكان توسيع قاعدة ذلك الدعم الحكومي وغيرالحكومي وتطويرمستوياته ونوعيته لوكانت القوى والشخصيات العراقية المتصدية لأدارة شؤون الجالية تعيش الدرجة المطلوبة من وحدة الرؤى والمواقف ووحدة تمثيل الجالية أمام الطرف الأيراني ،ولوكان الهم العام يتقدم دوما عندها على الهم الفئوي والشخصي...!! ،وللأسف ضاعت فرص كبيرة وهامة لتطويرأوضاع الجالية العراقية بسبب الصراعات الجانبية بين القوى السياسية العراقية وبسبب أختلاف الرؤى تجاه الكثيرمن الملفات ذات العلاقة بالجالية وبعموم القضية العراقية .

وأيضا كان بالأمكان تطويرذلك الدعم حتى يصل الى المستوى الذي ينص عليه دستور النظام الأسلامي الجديد و تحدّده النظرية الأسلامية والمستوى الذي يتطلّبه العمل من أجل مستقبل أسلامي مُشرق للعراق ، لوكانت القيادات الأيرانية وخاصة تلك المتصدّية للملف العراقي والمتصدّية لأدارة الوزارات والدوائر الحكومية ذات العلاقة بشؤون وحاجات الجالية العراقية لوكانت تعيش وعيا أكثرعمقا للقضية العراقية والظروف والملابسات المحيطة بها ولوكانت تعيش التطبيق الكامل لنظرية الأسلام وفق مدرسة أهل البيت ع في مجال التعامل مع المهاجرين وطالبي الأمان عندهم ...، وضاعت أيضا فرص كبيرة لخدمة الشعب العراقي في الداخل بسبب تأثرالمشاريع السياسية للمعارضة العراقية التي تأسّست في أيران، بأجواءالحرب العراقية الأيرانية وبأجواء الأنبهارالعاطفي التي ترافق بدايات أية تجربة ثورية ناجحة ،خاصة أذا كانت هويتها أسلامية وقيادتها مرجعية ...!؟ ذلك الأنبهار الذي يؤدي عادة الى أهمال الشروط الموضوعية وتركيزالنظر وحصره بالرغبة بالتطبيق السريع للأطروحة العقائدية وهوماأدى الى عدم مراعاة الظروف الأقليمية والدولية التي كانت تُحيط بالقضية العراقية وأثارة مخاوف أكبرمن الواقع ...مما أدّى الى زيادة الدعم الدولي والأقليمي للنظام البعثي المرفوض عراقيا وحتى أقليميا..!؟، وكان موقف بعض الدوائرالأيرانية الرسمية من الأنتفاضة الشعبية العراقية آذار1991 ليس بالمستوى المطلوب الذي يتطلبه دعم المنتفضين والمناطق المنتفضة ...وهوخلاف الموقف الذي كان يراه قائد الثورة والحرس الثوري الداعي للدعم الكامل للثوار العراقيين ..!؟

قائد الثورة السيد الخميني رحمه الله كان ينظربأحترام وتقدير وأعتزاز للعراقيين الذين قضى سنوات طويلة بين ظهرانيهم ،وكان عندما يوصي المسؤولين الأيرانيين يقول لهم :أن هؤلاء العراقيين لهم عزة نفس عالية فلا تتصرفوا أوتتحدثوا بشكل يؤدي بهم الى ترك أيران واليأس منا (هذا ماسمعته شخصيا من الشهيد السيد محمد باقرالحكيم رحمه الله والذي سمعه مباشرة من الأمام الخميني )...ومن الجدير بالذكرأن السيد الخميني وفي نهاية كلمته لنا عندما ذهبنا نحن أعضاء المجلس الأعلى للدورة الثالثة (1983) لزيارته في بيته برفقة الشهيد السيد الحكيم، قال كلمات ذات مغزى هي: (أنتم تناضلون لأسقاط حكومة ظالمة و’مستبدة ولكن ليس لكم الحق بعد الأنتصار أن تفرضوا أنفسكم ’حكّاما على العراق بل يجب أعطاء الفرصة للشعب العراقي لأختيار حكومته بالأنتخاب الحر...وأيضا قال لونجحتم وأنتصرتم فأني أرغب بالعيش في العراق بجوار مرقد جدّي الأمام الحسين عليه السلام).

للأسف الشديد وبسبب العصبيات الطائفية المقيتة أو بسبب الجهل بحقيقة الواقع الأيراني في جوانبه المختلفة، أوبسبب الأرتهان بدوائر ومخططات وسياسات خارجية ’معادية للعراق وللأسلام والمنطقة ، يقوم بعض العراقيين وخاصة ممّن لم يكن لهم أي دورفي محاربة الدكتاتورية والنظام البعثي البائد بتأجيج العداء للجمهورية الأسلامية وللشعب الأيراني المسلم الجار وأطلاق الشتائم ومصطلحات التكفير(الفرس المجوس والصفويين...الخ) التي أبتدعها النظام البعثي البائد... أطلاقها على الشعب المسلم الجارالذي كان في مقدمة الشعوب التي أسلمت بعد العراق والعرب وقدمت أئمة كبار خدموا الدين والحضارة الأسلامية جنبا الى جنب الشعوب المسلمة الأخرى ...ومن ضمنهم أئمة المذاهب الأسلامية المعر وفة .

وتسعى قوى سياسية وشخصيات عراقية مأزومة ومرتبطة بدوائر أقليمية لاتريد الخيرللعراق والعرب ، ومن خلال أستغلال بعض الأخطاء في السياسات الأيرانية (وهي أخطاء تقع فيها أغلب دول الجوار، بل ووقعت فيها دول ’كبرى في سياساتها الخارجية) وبعض المشكلات التي تعرضت لها العلاقات العراقية الأيرانية خلال العقود الأخيرة...، تسعى لأستغلالها بأتجاه قطيعة رسمية وشعبية بين الشعبين والبلدين الجارين..!حتى وصل الأمرالى أستهداف قوافل الزوارالأبرياء بالعبوات الناسفة والأنتحاريين ...! ،ويتكامل ذلك المسعى مع مخطط دولي وأقليمي لدفع العرب المسلمين لأستبدال العدو الحقيقي بالعدو الفارسي..! وما يجرّذلك من معارك جانبية ومحاور صراع كاذبة ..؟ ،وأخطرمن ذلك توجّه تلك القوى المشبوهة لأستخدام ملف العلاقات العراقية الأيرانية كورقة من أوراق الصراعات الداخلية على السلطة والنفوذ... الغريب أن البعض الذي يطلق على شعب مسلم بأكمله وصف (الفرس المجوس) ،هونفسه يستثني جماعة أرهابية (وفق المعيار الأوربي والأمريكي) من نفس الشعب (وهي منظمة خلق الأرهابية) فقط لأنها تُعادي النظام القائم في بلادها وتدعم الأرهاب في العراق ..!؟

والغريب أيضا أن النظام البعثي البائد شن عدوانه العسكري الشامل (أقرّت الأمم المتحدة في 1990 بأن النظام البعثي هوالباديء بالعدوان) على أيران بعد أن تحولت من أحد أهم ركائزالنفوذ الأمريكي في المنطقة وأحد أقرب أصدقاء أسرائيل الى أحد أبرزحلفاء وداعمي حركات التحرروالمقاومة العربية والفلسطينية ..!؟ بالطبع لم تخلوالساحة العربية من قيادات وطنية ’تدرك أهمية التحولات التي حدثت في أيران بعد أنتصارثورتها الشعبية الأسلامية ، فبادرت الى مشاريع راشدة للحوارالعربي الأيراني للتوصل الى المشتركات التي يمكن أن تشكّل قاعدة راسخة للعلاقات العربية الأيرانية لمصلحة الطرفين ولمواجهة العدو المشترك وللتعاون لمواجهة التحديات الأقتصادية والأمنية والبئية والتنموية وحتى الثقافية ولاننسى أن الأسلام هوأقوى تلك المشتركات فضلاعن التقارب الجغرافي . {لعل واحدة من أفضل المبادرات التي حصلت في هذا المجال هي الندوة الفكرية التي نظمها مركزدراسات الوحدة العربية مع جامعة قطر والتي أشترك فيها أكثرمن سبعة و عشرين باحثا ومفكرا عربيا وأيرانيا وذلك أواسط التسعينات من القرن الماضي، ودارت الندوة بكامل أوراقها وتعقيباتها ومناقشاتها حول محورين أثنين هما: الأرث التاريخي للعلاقات العربية الأيرانية، والأوضاع الراهنة وآفاق المستقبل. تم جمع الأوراق والتعقيبات والنقاشات في كتاب يتكون من 1006 صفحة، صدرت الطبعة الأولى في بيروت في تموز عام 1996 عن مركز دراسات الوحدة العربية، وعنوان الكتاب /العلاقات العربية ــ الأيرانية...الأتجاهات الراهنة وآفاق المستقبل / } .

تمثـّل الجمهورية الأسلامية الأيرانية اليوم وبعد مرورأربع وثلاثون عاما على نجاح ثورتها الشعبية، قوة أقليمية هامة تتمتّع بنظام سياسي ومؤسّسات وتقاليد دستورية راسخة ، وتشير صناعاتها المدنية والعسكرية الى تقدم علمي هام وكبير،وتشيرمنتجاتها الزراعية والغذائية الى وفرة عالية في الأنتاج بالرغم من الضغوط الأقتصادية الغربية الهائلة عليها وخاصة في العام الماضي والذي أدّي الى تدهورالقيمة الشرائية للعملة المحلية ،كماتشير مهرجاناتها الفنية الى تقدم هائل في مجال الموسيقى والسينما والفنون الأخرى أضافة لحركة التأليف والترجمة النشطة المعروفة...ويجب أن لاننسى أن كل تلك المجالات محكومة بالضوابط الأسلامية للهوية العقائدية للنظام،كما أن تجربة النظام الأسلامي (بنقاط قوتها ونقاط ضعفها وبسياساتها الصحيحة وبأخطائها )، توفر دروسا هامة لكل القيادات الأسلامية العربية التي وصلت الى السلطة في العراق ومصروتونس وليبيا والمغرب والسودان وغيرها، بالرغم من الأختلافات المذهبية المحصورة في مجالات ضيّقة...فهي تجربة غنية ورائدة جديرة بالدراسة والأستقراء بعيدا عن منهج الأستنساخ وعن العصبيات القومية والمذهبية والحزبية .

العراقيون يُباركون للشعب الجار ذكرى أنتصار ثورته الأسلامية ،و’هم مطمئنون الى أن القيادات الوطنية الأيرانية لديها من الحكمة مايجعلها تستفيد من أخطائها السابقة ،وينظرون بأعجاب الى نتائج الأنتخابات الأخيرة التي أوصلت الرئيس المعتدل روحاني و معالجة الأسباب التي أدّت الى بروز الخلافات بين الشخصيات والقوى الوطنية الأسلامية المختلفة المحسوبة ’كلها على النظام الذي أنبثق عام 1979 ،بسبب الأنتخابات قبل الأخيرة ، ويستبشرون بالتغيرات التي حصلت في بعض السياسات الخارجية والتي تؤدي الى تقليل التوتر مع العديد من الدوائر الأقليمية والدولية لما فيه مصلحة الشعب الأيراني وشعوب المنطقة .

نحن مطمئنون بأن حكومة الجمهورية الأسلامية وقيادتها الأسلامية ،تُدرك بأن عراقا حُرا و مُستقلا وذوسيادة وبعيدا عن التدخّلات الأقليمية والدولية ،سيكون جارا وصديقا وحليفا صادقا للشعب والنظام الأيراني وعلى أساس الأحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والمصالح المشتركة وما أكثرها.