banner
إمام جمعة الكوفة ودجال بغداد

محاولة أولية لفهم خلفيات وطبيعة الصراع بين مرجعية الشهيد السيد محمد بن محمد صادق الصدر(رضوان الله عليه) والنظام البعثي الحاكم في العراق في الفترة بين 1991 – 1999م مع عرض مختصر لنماذج من الفكر السياسي للشهيد الصدر(رض). (تم إلقاء البحث في ندوة في الذكرى السنوية الأولى لأستشهاد السيد محمد الصدر(رض) في شباط عام 2000م)

مدخل:
لا زلنا نعيش مشكلة المنهج العلمي في البحث والتقييم (التقويم)، ولا زال الكثير منّا يفضّل الارتجال، ليس فقط في الحديث بل في التحليل والمتابعة للاحداث المهمة وللقيادات الكبيرة التي تصنع المنعطفات المصيرية في حياة الوطن والشعب.
فالمقوم الاساس الذي تهتم به مراكز الرصد والبحث والتحليل الدولية وهو توفير المعلومات التفصيلية اللازمة عن الحدث او عن الشخصية موضع التقييم، لا يهتم به الكثيرون منّا..وكذلك إهمال المعايير العلمية في التحليل والاستنتاج ومن ثمّ التقييم.
وسوف تكون النتائج بالطبع بحسب مقدّماتها..فالمعلومات الناقصة والمعايير الخاطئة تؤدّي بالتأكيد الى نتائج غير صحيحة او غير منصفة وربّما مضلّلة.
وسوف تزداد خطورة مثل هذه النتائج اذا تأثرت نفوس الباحثين بمصالح ذاتية او فئوية نابعة عن هوى النفس.
وهذا ما يفسّر وجود عدد قليل من المراقبين الذين أنصفوا الشهيد السيّد محمّداً الصدر قبل استشهاده بسبب حملة التضليل والتعتيم والمحاربة التي مارستها أجهزة السلطة الحاكمة في بغداد وكذلك-للأسف الشديد- مارستها عناصر وقيادات محسوبة على الصف الوطني تجاه السيد محمد الصدر وتجاه مرجعيته وحركته السياسية والاجتماعية.


المنصفون من المراقبين او المحللين لم ينطلقوا فقط من حسن ظن وعاطفة إسلامية وإنسانية صادقة تجاه الفقيه الفقيد وانّما اعتمدوا على:

  1.  معرفة تفصيلية وافية بالنتاجات الفكرية للصدر الثاني، وخاصة فكره السياسي الراقي المبثوث في صفحات كتب موسوعته الرائدة عن الإمام المهدي(عجل الله فرجه الشريف)، والتي توالت بالصدور منذ بداية سبعينات القرن الماضي..إضافة الى ما صدر عنه من كتب وبيانات وخطب جمعة في السنوات القليلة التي سبقت شهادته.
  2. معرفة دقيقة مباشرة وغير مباشرة بخصائص شخصيته الأخلاقية العالية وسيرته الذاتية منذ شبابه وحتى سنوات عمره الأخيرة، تلك السيرة التي لم تعرف الا ما هو خير من خصال المسلم المؤمن المجاهد والعالم الربّاني الزاهد..وأمّا الدعابة التي في شخصيته فقد سبقه جدّه أمير المؤمنين(ع) بها، عندما حاول البعض إقصاءه عن موقعه الشرعي لأن فيه دُعابة.
  3. وعي عال بطبيعة الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية السائدة في العراق، وفهم واستيعاب أوضاع داخل العراق، خاصة في الفترة التي تلت هزيمة نظام صدام في الكويت وبعد توقف الانتفاضة الشعبية، وطبيعة المخاطر المحدقة ليس فقط بالمعارضين بل بوجود التيار الاسلامي عامة وأتباع اهل البيت(ع) خاصة...وفي ظل تواطؤ دولي مريب وتقاعس مخزي للاشقاء والحلفاء واخوة الدين والمذهب..!! إضافة الى عجز قيادات المعارضة العراقية في خارج الوطن.

 

منهج متميز في التحرّك السياسي:
يُمكن اعتبار منهج التحرك السياسي الذي اعتمده الفقيه الشهيد السيد محمد الصدر(رض)، سواء في مجال تربية الأمة وتعبئتها إيمانياً وسياسياً وإدارة حركتها السياسية والاجتماعية..أم في مجال مواجهة النظام القمعي العميل الحاكم والعمل على إفشال مخططاته المعادية للدين والوطن والشعب ولخط أهل البيت(ع) والمحافظة على الوجود أو الكيان الاسلامي والشيعي العريق...
يُمكن اعتباره منهجاً متميزاً وجديداً في الواقع العراقي عامة وفي الواقع الحوزوي والمرجعي بشكل خاص، بالمقارنة مع مناهج التحرك التي اعتمدها فقهاء ومراجع دين آخرون خلال الفترة الواقعة بين العشرينات (حيث توقفت ثورة العشرين الوطنية الإسلامية التي قادها علماء دين مجاهدون وزعماء وطنيون) والتسعينات من القرن السابق...

فعلى حين غرة وبخلاف ما هو مألوف في أوساط النجف، تصدى فقيه وعالم دين معروف الى اقامة صلاة الجمعة في مسجد الكوفة (ذي الرمزية التاريخية والعقائدية الخاصة) وشجع ودعم إقامتها في مختلف مدن العراق، واعتمد أدعية أئمة أهل البيت(ع) في خطب الجمعة للتربية والتعبئة وتحريك الجماهير.

وأهم من ذلك سياسته الخاصة في التعامل مع مبدأ التقية أو الهدنة مع النظام الحاكم، فأغلب مراجع الدين السابقين (ربّما باستثناء المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر(رض) الذي تصدّى لمقارعة النظام في زمن مبكر) كانوا يعيشون ولأسباب ومبررات مختلفة في وضع هدنة فعلية مع الأنظمة الحاكمة في زمانهم، بمعنى انّهم كانوا غير متبنين قضية إسقاط النظام او قضية النزول الى ساحة المواجهة السياسية والجهادية الشاملة معه.

بل وغالباً ما كنّا نشاهد وجود عناصر بارزة في حواشي أولئك المراجع أو من أبنائهم، لهم صلات منتظمة مع أجهزة او بعض مسؤولي النظام بغرض متابعة حل المشكلات والمعوقات التي تعترض الحوزات وطلبة العلوم الدينية وربّما أحياناً لدفع بعض المظالم التي تقع على ابناء الطائفة...بل وحتى لتحقيق بعض المصالح الشخصية والفئوية أحياناً، الجديد في سياسة الصدر الثاني تجاه موضوع الهدنة، يتمثل في انّ الشهيد سعي وبكل ما في وسعه لاخراج استحقاقات الهدنة من الدائرة الضيقة المرتبطة بمصالح المرجع او حوزة الدينية الخاصة الى الدائرة الاوسع المتعلقة بمصالح الامّة والوطن...والتحرك السريع والواسع لبناء قواعد شعبية واجهزة لوكلاء المناطق وقضاة الشرع، وبالتالي بناء واقع سياسي واجتماعي وثقافي ضخم يوازن سلبيات السكوت عن السلطة لعدة سنوات، ومن ثمّ العمل على توظيف هذا الواقع الجديد لاستكمال شروط المسيرة النضالية للشعب العراقي باتّجاه تحقيق الحرية والاستقلال والعدالة...واحترام القيم الدينية.

النظام الحاكم والمرجعية الدينية المتصدية (من المواجهة إلى الهدنة ثم المواجهة):
لا شكّ في أنّ قيام نظام صدام خلال عامي 1998 – 1999 باعتقال عدد كبير من وكلاء وتلاميذ وأتباع المرجع السيد محمد الصدر (الثاني) والتصدي لمنع إقامة صلاة الجمعة في الكوفة ومناطق أخرى في العراق والتضييق على المؤسسات والفعاليات المرتبطة بهذه المرجعية المتصدية، واستهداف العناصر النشطة من القيادات التي تمثل حلقة الوصل او القناة الوسطية بين المرجع وبين أبناء الشعب...وانتهاءً باغتيال المرجع مع اثنين من أبنائه في احد شوارع مدينة النجف(شباط 1999)
كل ذلك يعبّر عن ذروة التصعيد في سياسة المواجهة التي بدأ النظام ينتهجها أواخر التسعينات ضدّ القيادات الإسلامية الشيعية المتصدية بعد سنوات قليلة من الهدنة والتسامح المحدود...
إنّ سياسة المواجهة الحالية التي ينتهجها النظام ضدّ الحالة الإسلامية الشيعية إنّما تجري في إطار بيئة داخلية وأخرى خارجية (إقليمية ودولية) تتضمن كل منها

العديد من القضايا والمتغيرات ذات التأثيرات المباشرة وغير المباشرة على علاقة النظام الحاكم بالشعب وبالحالة الإسلامية بل وبحركة المعارضة العراقية بصفة عامة.

على الصعيد الداخلي: يواجه الشعب العراقي جملة من المشكلات والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية والسياسية التي تراكمت عبر فترة طويلة من الزمن وأصبحت تفرض نفسها على الدولة والمجتمع بصورة مزمنة وحادة.

  • هناك مشكلة الفجوة بين الإطار السياسي الرسمي من ناحية والواقع الاجتماعي بقواه وتفاعلاته من ناحية أخرى وهو الأمر الذي يؤدّي الى تلغيم العلاقة بين الدولة والمجتمع وجعلها عرضة للتأزم بصفة شبه مستمرة..والنظام يبحث عن أوساط وقوى تحالفه دون أن تهدده
  • النظام يتعامل من منطلق يقوم على أساس تهدئة وتسكين المشكلات وليس تقديم حلول جذرية، بل ويقوم على أساس الّلا سياسات والّلا مسؤولية عن هذه المشكلات وإلقاء تبعتها على العوامل الخارجية مستغلاً ظرف الحصار والعقوبات والاكتفاء بالقيام بما يؤدي فقط الى حفظ اجهزة السلطة وعدم سقوطها
  • النظام يعيش هاجساً يومياً حاداً لاحتمال تكرر الانتفاضة الشعبية، فالمجموعة الحاكمة والجهاز الحاكم يعلم بان كل الشعب يرفضه

على الصعيد الإقليمي: استمرار التوتر عموماً بين الحالة الإسلامية في اغلب الدول او بين الاوساط والجماهير والقوى الشيعية في بعض الدول وبين نظم الحكم في عدد من الاقطار المجاورة او القريبة واستمرار تأثير العقدة الإيرانية المؤثرة في سياسات تلك الأقطار تجاه بعض مفردات الواقع السياسي والاجتماعي في مجتمعاتها، واستمرار مخاوف تأثيرات دور الشيعة في الحياة السياسية في العراق على تلك البلدان.
إضافة الى العزلة شبة التامة بين النظام الحاكم في بغداد والمحيط العربي والإسلامي المجاور.
واستمرار عزل النظام عن لعب أي دور إقليمي في الحاضر والمستقبل المنظور بسبب نتائج غزوه العسكري لدولة الكويت مع وجود محاولات محمومة لدى السلطة ودوائر سياسية إقليمية مستفيدة لكسر تلك العزلة.

على الصعيد الدولي: أهمّها وجود إشارات دولية بدائية لدور أكثر جذرية وحيوية للشيعة في نظام الحكم المستقبلي في العراق – الى جانبه استمرار سياسات دولية قديمة للمحافظة على نفس المعادلة السياسية (خاصة في بعدها الطائفي) في العراق مهما كان الثمن، بل وتهيؤ قوى دولية مؤثرة لإجراء سياسات عزل طائفي وجغرافي واسع يضمن حفظ مصالحها الإستراتيجية البعيدة: أمّا لمخاوفها من التغيير وعدم التمكن من مسك خيوطه...وضعف البدائل او لمخاوفها من الدور الايراني... لعدم حسم ازدواجية القيادة في ايران.
او لعدم بلوغ القيادات العراقية الإسلامية الشيعية – حتى الآن- لمرحلة الواقعية الذرائعية في العمل السياسي وفي تحديد الاهداف التي تنسجم مع قواعد اللعبة السياسية الدولية، او هناك مخاوف من تكرار التجربة الإيرانية في العراق، ببعدها الداعم للحركات المعادية لإسرائيل وللولايات المتحدة الأمريكية وما يسمى بعملية السلام.

هناك مخاوف من حصول انسجام وتكامل بين ايران وبين العراق المستقل المحكوم من قبل الإسلاميين الشيعة مما يؤدي الى نشوء محور دولي كبير مدعوم بطاقات اقتصادية وبشرية كبيرة.
هناك الأطماع الدولية بالثروات الخيالية الموجودة في العراق.

  • كما انّ هناك نمواً في العلاقات السياسية وربّما الميدانية بين قيادات عراقية شيعية موجودة خارج الوطن وبين الولايات المتحدة الأمريكية وان كانت لحدّ الآن تقوم على اساس العلاقات والحوارات السرّية (بالطبع اغلب القيادات السياسية غير الإسلامية وغير الشيعية رتبت علاقاتها مع امريكا مباشرة او بواسطة وسطاء إقليميين منذ زمن غير قصير)
  • وبالتالي هناك مخاوف عند النظام من إمكانية بلوغ تلك العلاقات لمستويات تهدده بالصميم بالرغم من ان منطلق أغلب القيادات الشيعية في العلاقة هو إزالة مخاوف الدوائر الدولية منها وطمأنتها تجاه المستقبل إضافة للسعي من أجل دفع الدوائر الدولية لإيقاف انتهاكات حقوق الإنسان المروعة خاصة في مناطق الجنوب العراقي

حتى لا نكون من أصحاب فرض القناعات المسبقة على التحليل، نعود قليلاً الى الوراء لمحاولة فهم خلفية أزمة النظام الحاكم في بغداد مع المرجعيات الدينية ومع الحوزة العلمية العريقة في النجف الاشرف التي يعود تأسيسها الى أكثر من الف عام على يد الشيخ أبي جعفر بن الحسن بن علي الطوسي(485-560 هجرية).

نظام البعث العلماني الذي وصل الى الحكم بانقلاب غامض (يعتقد الكثير من الوطنيين بدور أساسي لشركات النفط الغربية في تدبيره) في 17 تموز 1968 كان لا يخفى خطّه الفكري والسياسي المضاد للأطروحة الإسلامية وكان ينشر علناً في تقارير مؤتمرات الحزب القطرية نظرته السلبية الى الإسلام والوجودات الإسلامية..وأفضل نموذج ما جاء في تقرير المؤتمر القطري التاسع الذي صدر أواسط الثمانينات وما كتبه صدام في كراسه الدين والتراث، لنتذكر بأن أوّل نظام حكم منذ عهد الاستقلال في العشرينات، قام بإعدام وقتل علماء دين في العراق، الامر الذي لم يفعله حتى البريطاني المحتل أوائل القرن كان الشيخ عبد العزيز البدري (رضوان الله عليه) إمام الجماعة والجمعة في مسجد (حي دراغ/المنصور) اول عالم دين قتله نظام صدام وفي عام 1974 تم اعدام ثلاثة علماء دين هم الشيخ عارف البصري والسيد عزالدين القبانجي والسيد الطباطبائي واستمر قتل العلماء حتى وصل لمراجع الدين، وقام بتأسيس شعبة خاص في مديرية الأمن العامة لمكافحة النشاط الديني في العراق (تأسيس الشعبة الخامسة في بداية السبعينات) هو النظام القائم في بغداد. وإذا كانت ملابسات الحرب الايرانية العراقية وتداعيات غزو الكويت ثمّ تحريرها قد دفعت النظام الى رفع الشعارات الدينية وإطلاق برنامج دعائي تحت عنوان حملة الايمان الكبرى ومنع الخمور في بعض الفترات وإضافة (الله اكبر) الى العلم الوطني.. إلا أنّ المواقف الحقيقية من الوجود الاسلامي بقيت على حالها...وبقيت المؤسسات الدينية وفعالياتها تمثل الهاجس الاول لدى السلطة، ذاكرة العراقيين لم تنس قتل الشيخ عبد العزيز البدري والشيخ ناظم العاصي والشيخ الشهرزوري والشيخ عمر شقلاوة وكل هؤلاء من علماء السنّة المعروفين في العراق، كما لم تنس المرجع الديني السيد محسن الحكيم الذي توفي عام 1970 وهو في صراع مرير مع السلطة، والمرجع السيد محمد باقر الصدر الذي تمّ قتله في اروقة القصر الجمهوري (9/4/1980)، والمرجع السيد الخوئي الذي اقتادته قوات صدام الخاصة بعد قصف المنطقة المحيطة بمنزله في النجف الاشرف بواسطة الهليكوبترات، الى مقر المخابرات العامة في بغداد (1991) ثمّ ليموت كمداً بعد ذلك بأشهر...مشكلة العقلية الحاكمة في بغداد، أنّها تعتمد الارهاب والقمع والاستئصال كإستراتيجية وحيدة في التعامل مع خصومها في الداخل والخارج، بالرغم من وجود بدائل سياسية أخرى للتعامل...كما تقوم بذلك أنظمة حكم عديدة في العالم العربي والاسلامي.

لا يصعب على سلطة حاكمة أن توظف الإمكانات الضخمة التي يختزنها الوجود الحوزوي والمرجعي في العراق لبناء دور إقليمي وإسلامي وعالمي للعراق فضلاً عن بناء كيان اجتماعي سياسي داخلي متين، هذا إن كانت السلطة حريصة فعلاً على استقلال وازدهار الوطن وإن كانت تعتبر نفسها ممثلة لأوساط الشعب كافة. فالتراث العلمي الضخم ونخبة العلماء المتخصصين في الحقول المتنوعة، ومنها الاقتصاد والقانون (أهم حقلين في العصر الراهن) وانتماء طلاب العلوم الدينية وأساتذتها الى جنسيات وقوميات مختلفة، توفر مثل تلك الفرص، خاصة ولم يكشف التاريخ البعيد والمعاصر عن دليل واحد يشير الى تحرك حوزات ومرجعيات العراق باتّجاهات تتعارض والانتماء الوطني العراقي، بل (وهنا المفارقة) ان حركة الجهاد والدور السياسي النشط للمرجعية الدينية في أوائل هذا القرن ساهما بشكل حاسم في بلورة الكيان السياسي الحالي للعراق وفي إنهاء الانتداب البريطاني واستبعاد مشروع تهنيد العراق أي (إلحاقه بالهند) وهو المشروع الذي عملت له بعض الدوائر البريطانية قبل الاستقلال.

يصعب علينا تصديق أنّ السلطة في العراق لم تدرك استحالة استئصال وجود علمي وسياسي عريق ذي جذور حضارية تمتد لقرون في بيئة العراق كالحوزة العلمية في النجف وكالمرجعيات الدينية في النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء وسابقاً في الحلة..
فهل كانت دوائر سياسية خارجية معروفة بدعمها للنظام، تسعى بالضبط الى تحقيق هذه النتائج القائمة حالياً في العراق: عزلة رهيبة بين النظام الحاكم ومؤسساته من جهة وبين أبناء الشعب من جهة أخرى مع إصرار النظام على البقاء بأي ثمن... بذور صراعات طائفية وقومية وعشائرية قابلة للنمو والتطور واستعداد سلطوي غير معقول لتمزيق نسيج المجتمع القائم... ودفع الأغلبية الشعبية بكل الوسائل للانفجار بأمل استقطاب الأقليات بمبرر دفاع النظام عن مصالحها وبأمل إجهاض جنين التحرك الشعبي الثوري قبل استكمال شروطه الموضوعية.


العوامل التي دفعت النظام الحاكم لاعتماد سياسة التسامح والمهادنة تجاه الإسلاميين الشيعة والمرجعية المتصدية في بداية التسعينات:

  1. رغبة النظام في تثبيت دعائم حكمه بعد الهزة الكبيرة بعد الانتفاضة الشعبية وبعد مضاعفات غزو الكويت وتحريرها والعزلة السياسية شبه الكاملة إقليمياً ودولياً.
  2. وجود قيادة مرجعية تنطلق من مقولة عدم التدخل في شؤون النظام بشرط عدم التدخل في شؤون الحوزة والمرجعية (يچفّونا شرّهم ونچفّيهم شرّنا) وهي مقولة وردت عن الشهيد السيد الصدر الثاني في مقابلة له في أوائل التسعينات مع مجلة الوسط.
  3. احتفاظ النظام بورقة عدم المشروعية القانونية (الرسمية) لحركة المرجعية والتنظيمات الإسلامية، لرفعها في وجهها متى تجاوزت الخطوط الحمراء (من وجهة نظره).
  4. الحرص على إستيعاب قطاعات ومراكز قوى ضمن الحالة الإسلامية الشيعية القائمة لتحييد موقفها من عملية المواجهة مع قوى المعارضة المسلحة أو التي تطرح شعار إسقاط السلطة بكل الوسائل ولمنع انخراط قاعدة تلك الحالة في صفوف القوى المضادة للسلطة، فوضع المعتدلين والمتشددين في الحالة الاسلامية الشيعية في سلة واحدة منذ البداية والتعامل معها بنفس الأسلوب سيؤدي الى خلق تقارب بين الطرفين أو على الأقل بين أوساطها الشبابية.
  5. محاولة منع استخدام القوى الإقليمية والدولية لورقة اضطهاد الشيعة في العراق وورقة محاربة النظام للمرجعية الدينية. هناك دراسة سرية منسوبة الى ما يُسمى (بمعهد الامن القومي) تشير الى خطط أمنية لتوظيف الهدنة مع المرجعية الدينية لأختراق أوساط المرجعية وتأجيج صراعات داخلية فيما بين أطرافها المتنوعة ومحاولة توظيفها لخدمة سياسات وأهداف السلطة الحاكمة.
  6. محاولة التعرف على الحجم الحقيقي والنفوذ الحقيقي لقوى الحالة الإسلامية الشيعية، من خلال إتاحة الفرصة لها للظهور على السطح والعمل في العلن..لكي يتم أخذ ذلك في الاعتبار عند التخطيط لصياغة مستقبل الأوضاع.


بالطبع لم تكن هذه المرّة الأولى في سياسة المهادنة من قبل السلطة تجاه المرجعية، فقد كان لها سياسة مماثلة في بداية الثمانينات مع مرجعية السيد الخوئي، وذلك عند مواجهتها لحركة الصدر الاول وللحركة الاسلامية العراقية وللجمهورية الايرانية الاسلامية ولكن الفرق بين الهدنتين كبير.
هذه العوامل وغيرها التي دفعت النظام الى تبني سياسة مرحلية متسامحة تجاه الحالة الاسلامية الشيعية وتجاه المرجعية الدينية، هي بالضبط ما كانت تنتظره قيادة مرجعية كامنة متمثلة بالسيد محمد محمد صادق الصدر(رض).

فالشهيد السيد الصدر الثاني:-

  • -    من آل الصدر المعروفة في الفقه والسياسة في العراق.
  • -    وهو تلميذ السيد الشهيد الصدر الاول (رض)
  • -    وهو المعتقل في السبعينات بتهمة الانتماء لتنظيم إسلامي سرّي.
  • -    وهو العالم والفقيه والباحث في سيرة الائمة وصاحب أفضل موسوعة معاصرة عن الإمام المهدي (عج)


والمستوعب لأدق قوانين وسنن التحرك السياسي والاجتماعي في عصر الغيبة الكبرى التي نعيش مرحلة متقدمة فيها...
(بالطبع فهم سمات عصر الغيبة الكبرى هو المنطلق الصحيح لتحرك اسلامي معاصر ينطلق من خط أهل البيت(ع)، وليس سقوط الخلافة العثمانية وغياب الكيان السياسي الاسلامي كما طرحت ذلك حركات اسلامية متأثرة بالفكر الخلافي)
- هو ذو الشخصية ذات الجنبة العرفانية البسيطة والبعيدة عن الطقوس التشريفاتية للمرجعيات التقليدية، والمحبة للجماهير او ما يسمى بالعوام لدى البعض والمتجاوز للكثير من الخطوط الحمراء الوهمية التي لا ندري من اين جاءت...التي تعزل الفقهاء والمراجع عن هموم الأمة وآلامها وآمالها.
وهنا يجب أن نستذكر السياق العام لحركة الصدر الثاني، فالرجل لا يتحرك خارجه، فالحالة الإسلامية الشيعية والمرجعية الدينية الرشيدة:

  • تُعتبر واحدة من أقدم وأكبر الحركات الإسلامية ذات النفوذ في العراق وفي العالم الإسلامي، وهي الأم لأكثر تنظيمات الساحة الإسلامية العراقية (وحتى غير العراقية)، بل ويمتد تأثيرها الى صفوف الحركة الوطنية العراقية غير الإسلامية ودورها معروف في نشأة الدولة العراقية المعاصرة مواجهة الاحتلال الأجنبي
  • وتمتلك القدرة التعبوية العالية لتعبئة الجماهير، اذا تصدّت للتحرك والعمل
  • وتتميز بسعة قاعدتها الجماهيرية بالرغم من كل جوانب عزلة بعض رموزها عن حركة المجتمع
  • إضافة إلى إكتفائها الاقتصادي نسبياً وارتباط العديد من المؤسسات الاجتماعية والثقافية والتعليمية بها


وتبرز أهمية هذه الخصائص بالمقارنة مع ضعف وهشاشة القوى السياسية الاخرى، وخاصة في مجال انعدام حصانتها العقائدية والأخلاقية.
إذا جاز لنا أن نستقرئ حركة الافكار في عقيلة الفقيه الشهيد (الصدر الثاني) فربّما تكون العوامل التالية هي التي هي التي شكلت رؤيته لطبيعة المرحلة القائمة وما هو مطلوب تجاهها:

  1. طبيعة فهمه لدور الفقيه أو المرجع الديني في الأمة.
  2. تقييمه وفهمه لتجربة قيادة المرجعية لثورة العشرين الوطنية، والدروس التي يُمكن الخروج بها من تلك الحركة الرائدة
  3. طبيعة وعيه لخطورة النفوذ الاستكباري الخارجي في البلد
  4. طبيعة وعيه للادوار المناط تحقيقها بالنظام البعثي (الأداة المتقدمة للقوى الخارجية) الذي وصل الى السلطة في العراق بانقلاب 17-30 تموز 1968م
  5. وعيه لقوانين التحرك وسنن التغيير السياسي أو الاجتماعي في المجتمعات المسلمة في هذه المرحلة التاريخية (وهي مرحلة متقدمة في عصر الغيبة الكبرى)
  6. ملابسات الواقع القائم للمرجعية الدينية في العراق ومضاعفات واقعها في العقود الاخيرة الماضية
  7. فهم وتقييم تجربة حركة المعارضة العراقية عموماً وحركة المعارضة الإسلامية خاصة، وبالأخص بعد استشهاد المرجع السيد محمد باقر الصدر(رض) وبعد مضاعفات غزو النظام للكويت ومنها فشل الإنتفاضة الشعبية (آذار 1991)
  8.  فهم ووعي واقع السلطة القائم (عناصر قوتها وعناصر ضعفها وموقف الشعب منها وموقف الدوائر الإقليمية والدولية منها...سياساتها العامة وسياساتها المرحلية...مواقفها الراهنة من القيادات الدينية...استحقاقات حملها للشعارات الاسلامية وشعار مواجهة القوى الخارجية)

 

كيف قرأ الصدر الثاني الواقع العراقي عند تصديه:

  1. مجازر وحشية ينفذها النظام تجاه الشيعة دون ان تتمكن قوى المقاومة والمعارضة من ايقافها، ودون ان تبدي أيّة قوّة إقليمية أو دولية استعدادها لإيقافها
  2. فراغ شبه كامل في ساحة قيادة المرجعية للأمّة (باستثناء إعطاء الأجوبة الفقهية على المسائل العبادية الفردية)
  3. تكتفي المعارضة الإسلامية (المعارضة العراقية عموماً) بالعمل المنظّم السرّي في ظل ظروف صعبة جداً أو تكتفي بعمليات مسلحة غير محكومة بخطة سياسية وذلك ضمن مرحلة أضرب وأهرب، وهذه الفعاليات بطبيعتها لا تناسب قطاعات واسعة من الأمة لصعوبة شروطها
  4. يكاد محور متطرف في النظام يرفع شعار (لا شيعة بعد اليوم) أن يفرض هذا الشعار كسياسة حكومية رسمية، وربّما بسكوت وتواطؤ مريب من قبل بعض الدوائر الإقليمية والدولية
  5. عدم وضوح معالم خطة سياسية متكاملة تعتمدها القوى المعارضة في الخارج لإطاحة نظام صدام
  6. لا يمكن تحقيق تغيير حقيقي في أوضاع العراق دون مشاركة شعبية واسعة، ولا يمكن تحقيق هذه المشاركة دون أن تتطور حركة الجماهير ضمن أجواء عمل علنية وطبيعية...


مَن وظّف الهدنة لصالحه: النظام أم المرجع المتصدّي؟
كما ذكرنا فيما سبق، انّ أهم ما يميز سياسة الصدر الثاني في تعامله مع مبدأ (الهدنة) مع النظام الحاكم في بغداد، هو:

  • التحرك الجاد لجعل استحقاقات الهدنة تصب في مصلحة قضايا الأمّة والدين وعدم الإكتفاء بالإستحقاقات الضيقة الفئوية أو الذاتية.
  • بناء قاعدة شعبية واسعة تدعم تحركه الديني والثقافي وحتى السياسي، لكي لا يتم الصراع مع النظام لاحقاً بمعزل عن الجماهير.
  • تثبيت وترسيخ أعراف ومؤسّسات لها قابلية الإستمرار حتى بعد تغير الشروط التي أدّت الى حصوله الهدنة، من قبيل صلاة الجمعة وقضاة الشرع ومواكب المشاة في الخامس عشر من شعبان وغيرها.
  • العمل على توظيف نتائج الهدنة في المدى المنظور ضمن خطط المعارضة لتغيير نظام الحكم وتمكين الشعب المسلم في العراق من تقرير مصيره بنفسه (وصلت إشارات من الصدر الثاني إلى بعض زعامات المعارضة في الخارج بهذا الاتجاه، إضافة الى إرسال السيد جعفر الصدر (نجل الشهيد الصدر الاول) الى الخارج وسعيه لفتح ممثلية للصدر الثاني هناك ومحاولة فتح قنوات حوار وتفاهم مع قيادات المعارضة الاسلامية والكيان السياسي الاسلامي القائم لدعم خطة تغيير مقترحة تنفذها قوى الداخل، فيه الكثير من الدلالات على ذلك)

 

لا نحتاج الى جهد كبير لإثبات نجاح الصدر الثاني في مساعيه لاستثمار الهدنة لصالح الحركة الوطنية المعارضة والشعب العراقي بكل مكوناته وقواه السياسية. فصلاة الجمعة التي يشارك فيها مئات الآلاف أسبوعياً وانخراط قطاعات شعبية واسعة في ممارسات دينية وسياسية خارج نطاق هيمنة السلطة والمحافظة على وجود الكيان الاسلامي والشعبي بعد عقود من الزمن من برامج السلطة المنظمة لنشر الإلحاد والّلا تدين، وإجهاض خطط السلطة المضادة للحالة الاسلامية ولمدرسة أهل البيت(ع)، خاصة بعد الصدام الشامل والحاد في الثمانينات، واستئصال بذور الصراعات الطائفية التي تغذيها السلطة وتنشيط الدور السياسي والاجتماعي للحوزة العلمية والمرجعية الدينية وإعادة الصراع الى محوره الحقيقي بدلاً من المحاور الكاذبة التي تطرحها السلطة...
بينما عبر التوجه الرسمي للسلطة الحاكمة في السنتين الأخيرتين (98-1999) لعرقلة جهود الصدر الثاني واضطهاد وكلائه وأتباعه وقتل العشرات منهم ومن ثمّ تنفيذ جريمة إغتياله مع إثنين من أبنائه وبإشراف مركزي من أعلى سلطة أمنية في البلاد، كل ذلك عبّر عن خوف النظام الحاكم من استمرار حركة الصدر الثاني وإحساسه بأن نتائج استمرار الهدنة لا تصب في خدمة مصالح النظام وأهدافه.

لم ينجح النظام الحاكم في استغلال الهدنة لإسباغ الشرعية الدينية أو القانونية على وضعه القائم، أو استغلالها لكسب تأييد ودعم القواعد الشعبية الإسلامية الواسعة في الداخل، كما لم يوفق بالرغم من بعض مناوراته ومؤامراته السّرية خلف الكواليس (ومنها قتله لاثنين من مراجع الدين- البروجردي والغروي) في إشعال الصراعات الجانبية بين رموز الحوزة الدينية والمرجعية الدينية في النجف الاشرف، كما لم ينجح في احداث صراع حقيقي بين الكيان الاسلامي الشيعي في النجف الأشرف وبين المرجعية أو الحوزة في إيران، ولم يسجل ولو دليل واحد على قيام الصدر الثاني بمنح النظام ما يريده من شهادات تزكية ومواقف تأييد في صراعاته الخاصة مع خصومه، بل إنّ الدوائر القريبة من الشهيد كانت تنقل نصوصاً واضحة عن سياسات ومواقف الصدر الثاني من النظام.

انّ لجوء النظام إلى الإغتيال وبتلك الطريقة الخسيسة والمفضوحة هو الدليل القاطع على فشل النظام في توظيف الهدنة مع المرجعية لصالحه، وعلى عجزه السياسي وضعفه الميداني في المواجهة وذلك لعدم قدرته على إدارة الصراع بالوسائل السلمية والسياسة والثقافية.
بل وأنّ لجوء النظام في الأشهر الأولى التي تلت جريمة الاغتيال الدنيئة، الى اتهام القوى المعارضة للسلطة وإلى تكريم وتمجيد الصدر الثاني في بعض وسائل إعلامه والسماح لآلاف العراقيين باتخاذ قبر الشهيد مزاراً وغير ذلك...يدل على ضخامة الوجود والنتائج التي بناها الصدر الثاني في الواقع العراقي الداخلي.
وحتى هذا التعامل المنافق الذي تعامل به النظام لأشهر، لم يصر عليه النظام وعادت أجهزته الإعلامية والحزبية والأمنية إلى سياسة تشويه شخصية الشهيد وتسقيط صورته الدينية والسياسية والوطنية..بعد أن تأكّد انّ النفاق السياسي للنظام لا يصب في مصالحه...وانّ حركة الصدر الثاني(رض) وما حققته من وجود وإنجازات وما تملكه من قواعد شعبية لا يمكن مصادرتها بهذا النفاق السمج.
وتأكد أيضاً بأن استحقاقات تلك السياسة الإعلامية المنافقة التي اتبعها النظام ستكون في المدى المتوسط والبعيد كبيرة ولصالح الحالة الاسلامية الشيعية السائدة وكذلك لصالح تنامي وتطور حالة النهوض الشعبي في الداخل وهي الحالة التي تمثل أرضية التغيير الجذري الشامل في العراق.

بالطبع لا نستغرب من المواقف العدائية لنظام صدام والدوائر الخارجية التي تدعمه من تحرك الصدر الثاني، وانّما الإستغراب..كلّ الإستغراب من ذلك الموقف السلبي الشاذ وأحياناً المضاد أو المعادي لتحرك الصدر الثاني الذي وقفته شخصيات وفئات تطرح نفسها كقيادات معارضة للنظام الحاكم في بغداد ومدافعة عن مصالح الشعب المسلم في العراق.
وإذا ما أهملنا مسألة تشخيص وتقييم النوايا (مع أهميتها الكبيرة في التقييم) واكتفينا بمعايير التحليل والتقويم الظاهرة...فإنّنا نسأل:
ألا تصب مجمل مفردات حركة مرجعية الصدر الثاني وحركة قواعدها ووكلائها في خدمة أهداف الحركة الاسلامية العراقية وأهداف تحرك علماء الدين العراقيين المجاهدين خارج الوطن وفي خدمة المعارضة الإسلامية العراقية...بل وكل حركة المعارضة بمختلف توجهاتها وألوانها الفكرية والسياسية...؟

ألا تكفي معرفة الموقف الحقيقي لنظام صدام من حركة الصدر الثاني لاكتشاف الموقف المطلوب من تلك الحركة؟
عجباً لمن يمتلك كل ذلك التراث الأصيل والغني (في القرآن الكريم وفي نصوص وسيرة المعصومين من أهل البيت(ع) وسيرة أتباعهم المخلصين ومنهم نواب الإمام الحجّة(عج) رضوان الله عليهم وخاصة رابعهم) حول مبدأ ومنهج التقية، ثمّ لا يحاول أن يفهم أسباب تلك المواقف الحكيمة التي اتّخذها الصدر الثاني(رض) تجاه بعض المفردات الحسّاسة في الواقع السياسي العراقي الراهن؟..وأسباب تلك التقية الواضحة تجاه أكثر الأنظمة دموية ودجلاً؟
وعجباً لمن قرأ ودرس النتاجات الفكرية للصدر الثاني التي بدأت بالصدور للأمّة منذ أواخر الستينات وأوائل السبعينات من القرن الماضي، خاصة تحليله السياسي والاجتماعي المعمق للعصور العباسية المتأخرة التي عاصرت كل مرحلة الغيبة الصغرى وبدايات الغيبة الكبرى وبضمنها الفصل المهم عما هو مطلوب خلال الغيبة الكبرى...اتخاذ مسلك السلبية والعزلة أو المبادرة إلى الجهاد وارتباط الأحكام الإسلامية الخاصة بها بالتخطيط الإلهي العام للبشرية...
عجباً لمن يعرف كل هذا التراث الفكري للصدر الثاني ثمّ يحكم بسذاجته السياسية والاجتماعية!!

وقضية هامّة أخرى:
انّ من أكبر وأخطر الأمراض التي يمكن أن تصيب قيادة أي تحرك سياسي وجهادي معارض، هو مرض محورية الذات أو محورية الفئة..بمعنى أن تفترض تلك القيادة انّ منهجها في العمل هو وحده الصحيح وانّ كل من يريد العمل ضدّ النظام يجب أن يكون عمله من خلالها (أي خلال هذه القيادة) ولا خيارات بديلة أخرى..وان من لا يرى رؤيتها ويلتزم بتعليماتها ويعمل من خلال قنواتها هو ساذج سياسياً أو مشكوك في إخلاصه أو مفرق لوحدة العاملين..الخ.
ثمّ إذا كانت هناك ظروف موضوعية أرغمت شخصيات ومجموعات معارضة على ترك الوطن واتخاذ دول مجاورة أو بعيدة قاعدة لنشاطاتها وأجهزتها وتشكيلاتها، وأرغمتهم الشروط الموضوعية الجديدة في البلدان البديلة على اتخاذ شعارات وسياسات معينة في نشاطهم...ألا ان هذا لا يعني عدم وجود شخصيات وقوى وأوساط معارضة حقيقية تعمل داخل الوطن لنفس الأهداف الكبرى ولكن بشعارات وسياسات ووسائل أخرى..وهو ما أثبتته حركة الصدر الثاني..التي كشف كم ان بعض القيادات المتحركة في الخارج والتي تبالغ في رفع شعار اعتماد الشعب داخل الوطن للتغيير..كم هي بعيدة في واقعها عن هذا الشعب وتفاعلاته اليومية الواقعية وقواه الميدانية.
إنّ الصيغة السليمة التي يجب أن يعتمدها جميع العاملين من أجل التغيير في العراق هو التعاون والتكامل والتنسيق والاحتكام إلى آراء وتوجهات الأغلبية من أبناء العراق في الداخل والخارج.

تم إعداد البحث للندوة الفكرية في الذكرى السنوية الأولى لأسـتشهاد الفقيه السيد محمد محمد صادق الصدر(رض) والتي أقامتها مؤسسة دار الإسلام في لندن في شباط عام 2000م