banner
جذور الخطاب السياسي الثقافي العراقي المعاصر

مع علمنا بدور العوامل السياسية في الأزمة العراقية ودور العوامل الأخرى مثل (التدخلات الخارجية) آلا إننا نريد هنا بحث واحدة من تلك العوامل وهو الفكر والأفكار والمناهج الفكرية ودورها أومسؤوليتها عن واقع الأنقسامات والصراعات السياسية والأجتماعية العميقة في المجتمع العراقي، و دورها في رص بنيانالمجتمع وترسيخ أسس وحدته.

الخطاب الثـقافي
المراقبون لمسيرة الخطاب الثقافي في العراق (أو الخطاب الثقافي العربي الموجه للعراق) يلحظون تغييرات هائلة بعد 9/4/2003 ومن أبرز صوره ومظاهره:

  1. اعتماد المعيار الطائفي (المذهبي) في تحليل الأحداث والأزمة في العراق ،واعتماده في اقتراح الحلول لتلك الأزمة
  2. غالبية وسائل الإعلام العربية والدولية أعتمدت نفس المعيار الطائفي في تسمية الشخصيات والأحزاب السياسية والكتل البرلمانية وفي توصيف الأحداث الجارية على الساحة ،بالرغم من أن القوى السياسية العراقية تعمل في الساحة العراقية منذ عشرات السنين ولم ’تعرف عنها تلك الأسماء .
  3. في العراق وبعد عقود (وربما قرون) من المنع والحجر والكبت والمحاصرة ،بدأ الخطاب الثقافي والفكري الشيعي في الانتشار العلني والواسع (أسواق الكتب والصحف والفضائيات والإذاعات المحلية ومجالس المحاضرات والوعظ وغيرها)
  4. تحول خطاب القوى المضادة للتغيير الذي حصل في 9/4/2003 وفي صُلبها خطاب حزب البعث الذي حكم العراق من 1968 – 2003 ،إلى خطاب طائفي معادي للشيعة والسعي للإيحاء بأن الخطاب الثقافي البعثي هو المعبّر الوحيد للخطاب الثقافي العربي (السنّي) في العراق وفي العالم العربي...
  5. الخطأ المتعمّد (أو غير المتعمّد) بأعتبار الأنتماء المذهبي (الطائفي) لشيعة العراق يعني أنتماءً سياسياً أو تنظيمياً محددا ً،لم يقع فيه المعادين للوجود أو للنفوذ السياسي الشيعي فقط ، بل وقعت فيه ايضاً شخصيات وقوى سياسية وأجتماعية شيعية عراقية بسبب أجواء الحرية وسقوط نظام القمع والكبت السابق،فتمدّد الخطاب الثقافي والسياسي لها من مستوى رفع الغبن والظلم الذي مارسته حقب وانظمة حكم سابقه وتصحيح المعادلة السياسية والأجتماعية السابقة، الى مستويات أبعد من ذلك لا تتحملها المرحلة ولا تتناسب مع درجة وعي القواعد الشعبية.

ويُمكن تحديد الجهات التي بادرت أو أنجرّت لتلك الانماط من الخطاب الثقافي الطائفي بما يلي:

  • قنوات اعلامية معروفة
  • شخصيات سياسية عراقية صعدت الى السطح السياسي بعد التغيير ،وأيضاً شخصيات وقوى عراقية معروفة.
  • طبقة سياسيين ومحلّلين أصبحت بمثابة الضيف المزمن على بعض الفضائيات العربية وجلّ عناصرها من وسط النظام السابق في العراق .
  • مراكز بحث ودوائر قرار سياسية وأمنية دولية.
  • حكام ومسؤولون عرب (مثل أطروحة الهلال الشيعي التي طرحها العاهل الاردني ... )


قبل دراسة وتحليل هذه الظواهر والمؤشرات ودلالاتها نود أن يراجع القارئ ثلاث دراسات كتبناها ونشرناها قبل سنوات (موثّقة تواريخها) ذات صلة بالموضوع ،ومن بعد قراءتها سنقوم بتثبيت بعض الاستنتاجات وضمن حدود محور( تأثير الخطاب الثقافي على المصالحة الوطنية):

  1. الدراسة الاولى: بعنوان / المشكلات الطائفية والخيار الديمقراطي / منشورة في العدد الثاني من مجلة المعهد الصادرة عن معهد الدراسات العربية والاسلامية في لندن كانون الثاني 2000
  2. الدراسة الثانية: بعنوان / نقد المعيار الطائفي في تفسير الازمة العراقية وفي وضع الحلول لها / وكانت فصلاً في كتاب بعنوان – الدكتاتورية والانتفاضة – كتبناه في التسعينات من القرن الماضي وصدر في لندن عن دار الرافد عام 1998
  3. الدراسة الثالثة :بعنوان / التعايش .. تجارب الآخرين والدروس / وهي دراسة تم نشرها في العدد الثالث من مجلة المعهد / لندن / تشرين الأول 2001 تحت عنوان (الجالية العربية في الغرب وإشكالية المواطنة ).


باختصار شديد نريد التأكيد على النقاط التالية:

أولاً – ما يطفو على السطح الثقافي العراقي من انماط خطاب (في هذه المرحلة) لا يعّبر في مجمله عن الاتجاهات الثقافية للمجتمع العراقي ولا للنخبة المثقفة العراقية، والعراقيون عموماً هم من المثقفين بالمقارنة مع مجتمعات عالمثالثية أخرى. وانما تُعبرّ بعض تلك الأنماط عن ردود فعل طبيعية لمكونات عاشت التهميش والإقصاء والكبت لعقود طويلة من الزمن، وهاهي تحاول في السنوات الأولى بعد سقوط الدكتاتورية إثبات هويتها وتأكيد حضورها في الوطن وفي صناعة هوية المجتمع وصناعة قراره السياسي.

ثانياً – وفي المقابل ما تسعى اليه بعض القوى والأوساط المعبّرة عن النظام السابق وعن الأوساط والدوائر الإقليمية التي كانت مستفيدة من وجوده واستمراره، هو تقمّص هوية الخطاب المذهبي المقابل الذي يريد الإيحاء بأن سقوط نظام دكتاتوري قمعي يعني سقوط هوية قومية وسقوط هوية مذهبية.!!، وان مشاركة مكونات أخرى في الحكم كانت مهمّشة لعقود من الزمن يعني تسلط مذهب آخر..!!. هذه المحاولة المستميتة لفرض نهجها كخطاب ثقافي لمكون هام في العراق مدعومة بأجهزة إعلامية إقليمية ذات تمويل كبير ونفير واسع، فاشلة وغير ناجحة ولم تنجح بالتحول إلى قناعة حقيقية لدى المواطنين العراقيين من ذلك المكون. فهي تبرز إلى السطح وقت الأزمات السياسية ومع عمليات القتل وإسالة الدماء في الشوارع والأسواق ولكنها تفتقد إلى الجذور العميقة الحية في الوجدان الشعبي مع ما هو معروف من درجات عالية من التسامح لدى المجتمع العراقي بدلالة استمرار التعددية الدينية والقومية والمذهبية والحضرية لقرون طويلة.

ثالثاً – المحاكاة (المفرطة في التبسيط) للظواهر الاجتماعية والسياسية في المجتمعات الغربية، واعتمادها معياراً في بحث مسائل الهوية الوطنية (المواطنة) والهويات الفرعية (الانتماءات الدينية والمذهبية والقومية... الخ),في الوطن ’تفقد الباحث واحدة من أهم شروط نجاحه وهي العلمية وبالتالي الحيادية ويبدأ باقتراح حلول لمشكلات لا وجود لها في مجتمعاتنا او باستيراد حلول جاهزة لمشكلات محلية لم تُفهم جذورها الحقيقية وملابساتها التاريخية والاجتماعية.
يجب ان يرضخ البعض من الباحثين (رغماً عن مزاجه النفسي والعصبيات التي يحملها) إلى ان بعض المكونات الثقافية للهوية العراقية هي بالأصل عناصر هوية حضارية لواحدة من المكونات العراقية التي لها حصة الأسد في تشكيل الهوية الوطنية العراقية بسبب عراقة حضور ذلك المكون وعمق تأثيره الفكري والاجتماعي في المجتمع.والمجتمعات الأوربية زاخرة بأمثلة واضحة لهذه الحقيقة التي يقبلها البعض هناك ويرفضها هنا.

رابعاً – ومن دراستنا لواقع تعامل المجتمعات الغربية مع الجاليات العربية والمسلمة عندهم سوف نكتشف او نتعرف على قوانين اجتماعية هامة يُمكن الاستفادة منها في بناء أوطاننا:

  • لابُد من الاعتراف بأن مجتمعاتنا او مجتمعنا العراقي، مجتمع تعددي الثقافات والديانات والمذاهب والقوميات.
  • لابُد من ضمان المساواة لجميع المواطنين في ظل القانون بغض النظر عن الدين والمذهب والأصل العرقي...
  • ان اندماج المكونات بالمجتمع يتحقق عبر مجموعة من المؤسّسات الوطنية الأتحادية ومن الوثائق كالجنسية وسياسة المساواة، والتمييز بين مكونات المجتمع من خلال تصنيف وثائق المواطنة مثل نوع شهادة الجنسية هو تدمير للمجتمع.
  • الاندماج لا يعني (الذوبان) وانما يعني الارتباط بعلاقة طوعيه وديمقراطية قائمة على الاختيار الحر وفي إطار التعددية واحترام الخصائص المميزة لكل فئة قومية او اجتماعية او مذهبية ودينية. ان النسيج البشري غير المتجانس يحتفظ دون إكراه بقيمه ومُثله وعاداته وتقاليده ويجب ان يحظى إلى ذلك بكامل الحماية والرعاية القانونيتين.
  • يجب ان يتخلّى بعض السياسيين والكتـّاب والأعلاميين عن ذلك المنهج الذي استمرت الحكومات الدكتاتورية بترويجه لعقود من الزمن، وهو منهج وضع (الوطنية) و (المواطنة) في مقابل الخصوصية الثقافية والحضارية لكل مكون، فالارتباط بالوطن والاعتزاز بالمواطنة يجب ان لا يعني مطلقاً التنازل عن الخصوصية الثقافية الحضارية.

فالتعددية قائمة في وطننا منذ قرون وبقي الوطن واحداً وحيّاً وفاعلاً، وإذا كانت المجتمعات والحكومات الأوربية وانطلاقاً من مصالحها أولا تسعى للاعتراف بخصوصيات جاليات لا يزيد عمر أقدمها عن قرن او نصف قرن من الزمان، فما بالك بمكونات مجتمع عاشت جنباً إلى جنب لعشرات القرون من الزمن.
يُمكن ان تمثـّل النقاط التالية ,التوصيات المناسية ضمن عنوان (الخطاب الثقافي المطلوب) :
الخطاب الثقافي المطلوب

  1. أن يعترف الخطاب السياسي الثقافي العراقي بالتنوعات القومية والدينية والمذهبية والاجتماعية ووحدة العراق في تعايش كل مكوناته.
  2. احترام خصوصيات العناصر المتنوعة المكونة للمجتمع العراقي في مجالاتها الخاصة.
  3. عدم اشتراط ترك الخصوصيات ( الهويات الفرعية ) كشرط للوحدة والمواطنة (وهو المعنى المتحضّر لمفهوم الاندماج، الذي يتبنّـاه الليبراليون في مقابل المعنى العنصري والفاشي الذي يتبنّاه اليمين ).
  4. إدانة خطابات التكفير والتخوين والتهميش.
  5. نقد المعيار الطائفي (المذهبي) والمعيار العنصري (القومي) في توصيف الأزمة العراقية وفي وضع الحلول والمعالجات لها.
  6. وضع المصطلحات المتداولة الحسّاسة في سياقها العلمي الصحيح. (الطائفية – المحاصصة – الوحدة الوطنية – العصبية..الخ)وعدم التلاعب بمضامينها لخدمة مصالح سياسية ضيّقة أوللأرهاب الفكري أولأبتزازالآخرين .
  7. التصاق بعض الهويات الثقافية والاجتماعية بإحدى المكونات (من حيث النشأة) يجب ان لا يكون مانعاً من اعتبارها من مكونات الهوية الوطنية العراقية، واعتبار احترام الهوية الحضارية للشعب العراقي شرط من شروط بناء الوطن.
  8. إيجاد آلية جادة لتحقيق التواصل بين قادة الفكر والثقافة ومن مختلف الانتماءات السياسية العراقية وبين صانعي القرار في الدولة العراقية.
  9. أهمية وجود مراكز ومعاهد تهتم بنتاجات المفكرين والمنظرين وتعتمدها في ترشيد انماط الخطاب الثقافي في العراق ,وتهتم أيضا بترجمة نتاجات المفكرين المكتوبة باللغات الأخرى.
  10. التصدي للتدخل الثقافي الخارجي السلبي والضار المدفوع بأهداف سياسية معادية لمصالح العراقيين (بالطبع التصدي له بالنقد والحوار والفكر والحكمة والموعظة الحسنة ).