banner
جذور الأزمة في العراق

لانحتاج الى جهد كبير لأثبات وجود أزمة (سياسية على الأقل) في العراق، وربما يمكن وصفها بالأزمة المزمنة، وأذا كانت الغالبية من السياسيين العراقيين مشغولة بالجانب الظاهرمن النقاط المتعلّقة بتلك الأزمة من قبيل مناقشة مدى سلامة الأجراءات القضائية في ملف المتهم نائب رئيس الجمهورية أومدى صحة ردود فعل رئاسة الوزراء على تصريحات ومواقف نائب رئيس الوزراء أو معالجة تداعيات أنسحاب (وعودة) أعضاء من القائمة العراقية من جلسات مجلس النواب ومجلس الوزراء أو تأثير عدم تنفيذ بعض بنود أتفاقيات أربيل أو مدى ألتزام كتلة دولة القانون ورئاسة الوزراء بمبدأ المشاركة وزعم سعيها لأحتكار مراكز القوى في النظام القائم وعدم جدية التحضير للمؤتمر الوطني المزمع عقده أو عدم مشاركة بعض القادة فيه... الخ، فليسمحوا لنا بألقاء الضوء على بعض جذورها، وربما سوف نكتشف الأهمية الكبيرة لذلك، ونرجو أن لايكون ذلك متأخّرا...

أن أسباب مهمة تدعو القادة الوطنيين في العراق الى أنهاء منهج المرحلة الأنتقالية في التعامل مع الأحداث ونقصد بمنهج المرحلة الأنتقالية:

{ الأهتمام بقضاء حاجات أوحل مشكلات اليوم وغدا وعدم الأهتمام بالتداعيات والمضاعفات المتوسطة والبعيدة المدى ... بمعنى تفضيل فوائد تكتيكية أو آنية على أضرار أستراتيجية وبعيدة المدى ... وبمعنى ميل القادة (بعض قادة الدولة) الى ربط المشكلات والحلول بأشخاصهم ومبادراتهم وبقناعاتهم وردود أفعالهم وأنفعالاتهم المباشرة على مشكلات وتحديات مفاجئة أوقديمة، وليس بالقناعات المستقرة للغالبية من أبناء الشعب (تلك الغالبية التي تمثّل القاعدة الأنتخابية للبرلمان والحكومة وللنظام السياسي الجديد)، وبالمؤسّسات وباللجان المختصة وبالمعلومات والدراسات والخطط والسياسات ذات العلاقة ... وبمعنى أعتماد سياسة عقد الصفقات التي تسعى لأرضاء أطراف (ولو بالحد الأدنى من المطالب) وأحياناعلى حساب المباديء والدستور والقوانين والثوابت الوطنية والأهداف والمصالح العليا للنظام السياسي الجديد ولعموم جماهير الشعب ... وجعل قرارات ودور أهم المؤسّسات الدستورية (مجلس النواب ومجلس الوزراء ومجلس القضاء الأعلى وهيئة النزاهة) رهينة تلك الصفقات ...وبمعنى بقاء التداخل (ولوبالسر) بين مساحات القرار الوطني العراقي وبين مساحات النفوذ و التدخل الأمريكي المناقض حتى لنصوص وروح الأتفاقيات المعلنة الموقعة بين الطرفين، وتعوّد بعض المسؤولين على منهج رفع الشعارات الوطنية الخاصة بالسيادة (وبالتأكيد بعضهم صادق في الأيمان بها وربما يقوم بخطوات أيجابية ومفيدة في هذا المجال) ،الاّ أنهم وللأسف الشديد و لحسابات سياسية ضيقة يغضّون النظر (وأحيانا يعقدون صفقات سرية) عن أنتهاكات فظّة وصارخة للسيادة والمصالح الوطنية ، يقوم بها الطرف الأجنبي ... هذه هي بعض مصاديق منهج المرحلة الأنتقالية، المستمرة وللأسف الشديد منذ تشكيل الحكومة المؤقتة عام 2004م و لغاية يومنا الراهن}.

اذا كانت أسباب من قبيل: طبيعة الظروف التي تسود في السنوات الأولى التي تعقب سقوط أي نظام دكتاتوري شمولي قمعي حكم لعدة عقود من الزمن، وتداعيات الأحتلال العسكري الأجنبي، وقلة خبرة القوى الوطنية في مجال أدارة الحكم وأدارة العلاقات الأقليمية والدولية وحتى في مجال أدارة تنافساتها وصراعاتها على النفوذ ومكاسب السلطة، أذا كان كل ذلك يبرر نشوء و شيوع منهج المرحلة الأنتقالية في وسط رجال الدولة والسياسة، الاّ أن أنقضاء أكثر من ثمانية سنوات على التغيير وتخلّص الوطن من وجود قوات الأحتلال ومن الجزء الأكبرمن نفوذهــا .. وتغيرسياسات الأدارة الأمريكية الديمقراطية في واشنطن تجاه العراق والتدهور الكبير في أوضاع أنظمة الحكم في العديد من الدول العربية التي كانت لها أدوار سلبية مؤثّرة في الداخل العراقي وأنكشاف طابورها الخامس... وتزايد نضج وخبرة القوى الوطنية خاصة الحاكمة منها ورسوخ المؤسّسات الدستورية، وبروز أرهاصات ومقدمات حقيقية تشير الى دورأقليمي محوري وهام للعراق في المستقبل المتوسط والبعيد (أن أحسن حكّامه وقادته التصرّف).. فضلا عن توقّع أبناء شعبنا وبعد أنقضاء السنوات العجاف، لخدمات وظروف معيشة أفضل تتناسب وثرواتهم الوطنية بل تتناسب وصبرهم الجميل والطويل وتضحياتهم الكبيرة ودعمهم اللامشروط للنظام السياسي الجديد وللحكومتين الدستوريتين السابقة واللاحقة...

كل ذلك يستدعي تغيير ذلك المنهج من خلال تقليص دورأجتهاد الأفراد وتنمية دور المؤسّسات المنتخبة وتقليص مساحة الأنفعال وردود الأفعال وزيادة مساحة الفعل المدروس المبني على التخطيط العلمي السليم والبعيد المدى، ويستدعي مكافحة الفساد ونبذ منهج الصفقات (شيلني وأشيلك) وخاصة الصفقات غيرالمعلنة والألتزام التام والجاد والدائم بالدستوروالقوانين والقيم. وعودة الى الجذور.. نحن نعتقد بأن العناوين العامة لجذور الأزمة في العراق هي:

  1. النفوذ والتآمر الدولي والأقليمي
  2. الصراعات والحسّاسيات والمخاوف المذهبية والعنصرية والحزبية العميقة الجذور
  3. عدم أهلية القسم الأكبر من أجهزة الدولة وموظّفيها،للنهوض بأهداف ومهام وسياسات وبرامج النظام السياسي الجديد،بسبب الفساد المالي والأداري وضعف الشعوربالمسؤولية وضعف هيبة الدولة والصراعات الطائفية والحزبية وعدم معاقبة المفسدين والفاشلين
  4. أفتقاد العديد من رجال الدولة الى الكثير من الخبرات والمهارات والعلوم، ذات الأهمية الكبيرة في مجال أدارة الدولة المعاصرة وأدارة الأزمات الداخلية وأدارة العلاقات الخارجية
  5. ثغرات ونواقص وأخطاء لازالت قائمة في الدستور والقوانين والمقررات، بعضها من مخلّفات النظام البعثي البائد وأخرى من مخلّفات فترة الأحتلال (بريمر) والبعض الآخر نتيجة عدم تناسب التشريع مع الواقع القائم وحاجة الواقع الى التطوير والتأهيل ليصل الى مستوى التشريع
  6. تراجع مكانة المباديء والقيم الدينية والأنسانية الخيّرة في نفوس بعض رجال الدولة ( قياسا بما كانت عليه في نفوسهم في مرحلة المعارضة)، وتراجعها في نفوس الكثير من أبناء الشعب
  7. عدم بناء الكتلة الصلبة اللازمة لأستقرار النظام السياسي الجديد وعدم حسم طبيعة هويتها السياسية والثقافية والأجتماعية ومنظومة مصالحها الحيوية والتحالفات التي تقوم عليها (وهــي الكتلة التي لاتتغير بتغير الحكومات والوزارات، بل يمتد عمرها لعقود من الزمن وتتغير فقط عند تغيّر طبيعة النظام السياسي وهويته السياسية والفكرية والأجتماعية)
  8. عدم أتفاق القوى السياسية المشاركة في السلطة على رؤى ومفاهيم أساسية مثل تشخيص هوية أعداء النظام السياسي القائم وهوية أصدقائه وحلفائه، وعدم توحيد فهمها لمصطلحات أساسية متداولة (المشاركة السياسية، المصالحة الوطنية، الأرهاب والأرهابيين... الخ) ومن هنا وجدنا داخل النظام من يعتبر الأرهابي مجاهدا والعدو صديقا وحليفا والحليف عدوا، ووجدنا من يستغل موقعه الوظيفي الكبير لتبرئة مجرمين والتواطؤ لأطلاق سراحهم أو منع أعدامهم

هذه في تقديرنا أهم جذور الأزمة الراهنة في العراق... بالطبع يجب أن لانستنتج خطأ عدم أهمية الجهود التي تبذلها حاليا شخصيات وقوى سياسية من داخل الحكومة ومن خارجها لحـل الأزمة التي حصلت نتيجة ملف طارق الهاشمي وصالح المطلك وأنسحاب العراقية وأعادة طرح ملف أتفاقيات أربيل ... الخ، ففي العراق ولطبيعة المرحلة الراهنة وخطورة التحديات القائمة وهشاشة بعض التحالفات الداعمة للحكومة، تكون مثل تلك الجهود مطلوبة لأطفاء كل حريق وتطويق أية مشكلة مهما كان حجمها ... لأيقاف المضاعفات والتداعيات التي قد تؤدي الى تعريض كل العملية السياسية للخطر! من هنا على كل القوى الوطنية العراقية دعم الجهود المخلصة لعقد اللقاء الوطني العام، وعلى بعض القيادات عدم أعتبارها فرصة مناسبة لأبتزاز الحكومة أو العكس فرصة لتبرير بعض أخطائها .. وبرأينا المتواضع أن مايساعد على نجاح ذلك اللقاء المرتقب هو تجنّب فرضية العصا السحرية القادرة على حل كل المشكلات وتلبية كل الطموحات، بل يجب تحديد سقف واقعي له يتناسب وأولويات المرحلة وأن يختص اللقاء الوطني ببحث ما لايمكن بحثه وأقراره في مجلس النواب ومجلس الوزراء ومجلس القضاء الأعلى أوفي لقاء الرؤساء الثلاث .. لقد أتاحت لنا مسؤوليتنا عن الجانب السياسي من مشروع المصالحة الوطنية في الحكومة الدستورية الأولى (أيار2006ـ نهاية عام 2010 م/ أي مسؤوليتنا عن وزارة الحوار الوطني ورئاسة اللجنة العليا للمصالحة الوطنية)، فرصة عقد مؤتمرين عامين للقوى السياسية العراقية (بما فيها القوى السياسية غير المشتركة في السلطة وبعضها معارض للنظام السياسي القائم)، وتمت دعوة مئات الشخصيات من الأحزاب والحركات ومنظمات المجتمع المدني والمستقلين.. ليس على أساس التمثيل الرسمي لها بل بوصفها الشريحة السياسية ذات الأحتكاك اليومي بالمواطنين وبأوساطها السياسية والحزبية.. كما دعونا كبار رجال السلطة والمسؤولين في أجهزة الدولة ذات العلاقة، و قمنا وأضافة للكلمات والبيانات الرسمية بأيجاد ورش عمل متخصصة يشارك فيها مسؤولين في الحكومة جنبا الى جنب قادة وكوادر قوى سياسية معارضة، ونشرنا فيما بعد وفي العلن كل المناقشات والمداخلات التي جرت في ورش العمل تلك أضافة الى المقررات التي حازت على قبول أغلبية أعضاء الورشة ... وهي ممارسة قلّما نجدها في أي بلد عربي ، وكان الهدف بلورة رؤى مشتركة تجاه ملفات هامة ذات أولوية ورفعها للجهات ذات العلاقة وأيجاد آلية لمتابعة التنفيذ.. أضافة الى هدف بناء جسور من الثقة والتفاهم بين مختلف القوى الوطنية العراقية وبين الحكومة، وأيجاد آليات تضمن التواصل البنّاء فيما بينها.

وأزعم أننا نجحنا في ذلك بدرجة لابأس بها وهو ماكشفته لاحقا طبيعة التحالفات الوطنية التي دخلت القوى الوطنية العراقية بواسطتها آخر أنتخابات لمجلس النوّاب أضافة الى الطيف الواسع من القوى السياسية الذي أستوعبته الحكومة العراقية الأخيرة ... نذكر هذه التجربة للتأكيد على قدرة الحوارالوطني على حل الكثيرمن مشكلات العملية السياسية،أذا كان هدف القوى المشتركة فيه هو المصالح العليا للعراق والعراقيين.

مع كل تمنياتنا للّقاء الوطني المرتقب بالتوفيق والنجاح، وتأكيدنا على كل الفرقاء المختلفين التخلّي عن منهج تقديم المصالح الحزبية والقومية والمذهبية والشخصية على مصالح الوطن والمواطنين، وضرورة توفير باقي شروط النجاح للّقاء وأهمها أبعاد العناصر المتشنّجة والأتفاق على منهج الأجتماع وضوابطه قبل الدخول اليه، والتركيز على المشتركات الوطنية الكثيرة وضمان الألتزام بالآليات العلمية والسلمية في حسم المسائل المختلف عليها . نقول مع كل تلك التمنيات، الاّ أننا نلفت أنتباه المهتمين وأبناء شعبنا الى خطأ المبالغة في التوقّعات والآمال التي يعلّقها البعض على اللقاء المرتقب.. لأنه لم تحصل تغيرات حقيقية في عقلية وطريقة تفكيرالكثير من الشخصيات ذات العلاقة بالمشكلة ولازالت وللأسف الشديد سياسة عقد الصفقات هي السائدة ونرجو أن نكون مخطئين في هذا التشخيص!!

على الحكومة والبرلمان والسلطة القضائية البدء ومن الآن بخطوات تضمن معالجة كل النواقص والأخطاء وعمليات التلاعب التي حدثت في أنتخابات مجلس النواب الأخيرة والتي أنتجت معادلة شاذة غير واقعية في تقسيم القوى داخل البرلمان، وهو السبب الجذري للكثير من الصراعات داخل معادلة النظام (ساهمت دوائر في السفارة ....... في بغداد وبعض من يعمل تحت لافتة ممثلية الأمم المتحدة وأموال خليجية طائلة وصلت الى بعض الشخصيات التي هي الآن طرف مهم في المشكلة ودوائر أمنية في دول عربية أضافة الى برنامج كمبيوتري مشكوك فيه ومريب تعتمده مفوضية الأنتخابات عند أدخال المعلومات ... ساهمت كل تلك العوامل في عملية التلاعب بنتائج الأنتخابات) ... أن معالجة تلك الظاهرة الخطيرة وأصلاح النظام الأنتخابي هي المقدمة الطبيعية لمنهج أعتماد الأغلبية السياسية في تشكيل الحكومة القادمة التي يبشّر بها البعض من قادة الحكومة كحل جذري للأزمة القائمة، عندما عجزت الدوائر الأمريكية في 2003 و2004 عن أقتاع قادة القوى الوطنية العراقية بمقترح تأجيل الأنتخابات لعدة سنوات وعندما عجزت عن أقناعها بمقترح كتابة الدستور من قبل لجنة يتم تعيين أعضائها (و كان للمرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف الرأي الحاسم في هذا المجال)، و... عندما فشلت في ذلك توجّهت وبقوة وتخطيط شامل نحومنع بناء الكتلة البرلمانية الكبرى في البرلمان،الكتلة المنسجمة سياسيا وثقافيا وأجتماعيا والتي كانت ستكون الركيزة الحقيقية للعملية الديمقراطية السليمة والبنّاءة ... التي تتمكّن من أدارة البلد ومعالجة أزمات الوطن ... وكانت ستؤدي الى وضع المعارضة البرلمانية في مكانها ودورها الصحيح ... وأستخدمت تلك الدوئر الحساسيات الطائفية وحداثة تجربة القوى الوطنية وضغوط أخرى لجعل نتائج الأنتخابات دائما تقود الى معادلات ليست في صالح كتلة برلمانية مريحة.. بينما الواقع السياسي والأجتماعي الشعبي يدل على غير ذلك ... وهذه الحالة تلغي جوهر العملية الأنتخابية، وتصنع أقليات سياسية غير حقيقية (يتم أدارتها من خارج الساحة الوطنية) قادرة على عرقلة وأبتزاز الأكثرية السياسية المنسجمة التي بدونها لايمكن أدارة بلد وخدمة شعب ... هذه هي أهم جذور الأزمة العراقية.