banner
هل تخسر أمريكا فرصتها الثانية لتصحيح سياستها الخارجية؟

نحن من الذين يعتقدون بأن الولايات المتحدة الأمريكية تكاد تخسر فرصتها الذهبية الثانية (و ربما خسرتها بالفعل)، في تغيير صورتها وسمعتها لدى العالم العربي وحتى الأسلامي، تلك السمعة التي عبّرعنها السؤال المشهورالذي أطلقته الدوائرالأمريكية بعد العمليات الأرهابية التي وقعت في 11/9/2001 وهو: لماذا يكرهوننا؟

مظلومية الشعب الأمريكي آنذاك، و مصداقها آلاف المدنيين ورجال الأطفاء والأسعاف القتلى الذين قتلتهم عمليات بن لادن (بواسطة الأنتحاريين الوهابيين الخمسة عشر) الأرهابية، هي التي هيّأت الفرصة الذهبية الأولى.. لأنها كانت المرّة الأولى التي يتم مهاجمة المواطنين الأمريكيين في عقر دارهم وهي التي أثارت أسئلة أستراتيجية هامة أمام مراكز البحث والقرار العليا في الولايات المتحدة الأمريكية، من قبيل: لماذا يكرهوننا؟ ومدى سلامة وجدوى السياسات الخارجية الأمريكية و خاصة في العالمين العربي والأسلامي؟ وكيف يكون كل الأرهابيين المهاجمين لمركز التجارة وباقي المؤسّسات الأمريكية من دول عربية (خمسة عشر أرهابيا من السعودية وواحد هومحمد عطا من مصر) يحكمها حلفاء مقرّبين للأدارة الأمريكية وبالرغم من دكتاتورية أولئك الحلفاء وجرائمهم بحق شعوبهم وحربهم المعلنة على الديمقراطية وحقوق الأنسان، الاّ أنهم حظوا بأقوى وأطول دعم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية!!؟

ولماذا تكون متطلّبات التنافس الأنتخابي بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري (وخاصة في مجال المزايدة في دعم الكيان الصهيوني) هي الحاكمة في تحديد السياسات الخارجية الأمريكية في المنطقة العربية، بالرغم من أنها تعرّض المصالح الحيوية للولايات المتحدة الى مخاطرأكيدة وجسيمة؟

أما الفرصة الثانية فتوفرت عند أندلاع الأنتفاضات والثورات الشعبية العربية قبل أكثر من عام ونصف، وبدء الخطاب الرسمي الأمريكي لأدارة أوباما بتأييد أغلب تلك الثورات في الأعلام.. و التشجيع والسعي لعقد صفقات متوازنة بين القوى الثورية الجديدة وبين بعض قوى الأنظمة العربية القديمة(في المؤسّسة العسكرية والأمنية)، خاصة بعد أن عجزت الأنظمة القديمة عن منع تطورالمظاهرات الشعبية ومنع أنظمتها من الأنهيار!! في كلا الفرصتين اللتين لايمكن تكرّرها على المدى المنظور، كان بأمكان الأدارة الأمريكية أن تنجز مراجعة حقيقية شاملة لمنطلقات وفلسفة وأهداف ووسائل سياساتها الخارجية، خاصة في العالمين العربي والأسلامي اللذين يعيشان مخاضا عميقا قد ينتج أرهاصات مرحلة حضارية تأريخية جديدة؟!

الولايات المتحدة الأمريكية (ومعها بالطبع الأنظمة الأوربية العريقة) بقدراتها العلمية وخبراتها الأدارية والصناعية وأدوارها الكبيرة في العالم، و العالمين العربي والأسلامي بمخزونهما الحضاري وثرواتهما الهائلة وطاقاتهما البشرية المتنامية، كان بأمكانهما أنجازتغيير كبيرفي عالم اليوم لصالح الشعوب المظلومة ولصالح البشرية جمعاء، الاّ أن اللاأخلاقية والذرائعية المبالغ فيها والمنفلتة من القيم الأخلاقية وأزدواجية المعايير في السياسات الخارجية... أضافة الى التناقض الصارخ بين السياسات الرسمية المعلنة وبين الأجندة الخفية وماتقوم به الأجهزة السرية، وأولوية مصالح الكيان الصهيوني في المنطقة، كل ذلك كان مانعا من توظيف الفرصتين لخدمة المصالح المشتركة للعالم العربي والولايات المتحدة الأمريكية. الدرس الأول الذي خرجت به الأدارة الأمريكية بعد العمليات الأرهابية في 11/9/2001 ومفاده خطأ دعم الأنظمة الدكتاتورية، سرعان ما تناسته (وعادت حليمة الى عادتها القديمة).. حيث بقت السياسة الخارجية الأمريكية ومنذ ذلك التأريخ وحتى ثورات الربيع العربي، تدعم الدكتاتوريات العربية في مواجهة الشعوب العربية (كما كان في تونس ومصر واليمن قبل التغيير ولازال في البحرين ودول خليجية أخرى)، في آخر خطاب للرئيس الأمريكي أوباما أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، قال أن عصر الطغاة الدكتاتوريين قد ولّى وأن عصر الشعوب قادم... ولكنّنا نسأل يا سيادة الرئيس لماذا لاتزال الولايات المتحدة تدعم الدكتاتوريات؟ وتعمل حثيثا عند سقوطها من أجل منع محاسبة ومعاقبة قتلة الشعوب ومنع التخلّص من أجهزتها القمعية؟ ودرس أسقاط الأنظمة القمعية المتوحّشة مثل نظام طالبان ونظام صدام البعثي، سرعان ماتحوّل في العراق مثلا الى خطط وسياسات أبقاء الأجهزة القمعية للنظام البعثي السابق ومحاولة خلق معادلة متوازنة بين القوى الوطنية من جهة وبين بقايا البعث والأجهزة القمعية، وأقصاء القوى الوطنية عن الأجهزة العسكرية والأمنية الجديدة، ودعم عملية التزوير والتلاعب بنتائج الأنتخابات لصالح قوى وشخصيات موالية للسياسات الأمريكية ومنع بناء الكتلة البرلمانية الكبيرة المنسجمة سياسيا وفكريا وأجتماعيا، لمنع نشوء أغلبية برلمانية مريحة قادرة على بناء نظام ديمقراطي ناجح، وقيام شركاتها الأمنية بأدوار غامضة ومشبوهة تصب في خانة عدم الأستقرار الأمني، وبسبب هذه السياسات الخاطئة، أصبحت خطواتها وسياساتها الصحيحة معرّضة للتشكيك والنسيان (من أمثلة تلك السياسات والخطوات الصحيحة دعمها للعملة المحلية ودعمها لحملة ألغاء الديون العالمية التي بذمة الدولة العراقية ودعمها لتنمية القطاع الزراعي والمنح العلمية والتدريبية للطلبة والموظفين العراقيين ومنع بعض الدوائر العربية الرجعية الحاكمة والمناوئة للنظام الجديد في العراق / بماتملكه من نفوذ على تلك الدوائر/ من التآمرعليه، خاصة في بعض المراحل التي كان فيها النظام السياسي الجديد في أضعف وأخطر مراحله ومساهمة القوات الأمريكية في حراسة الحدود العراقية والقضاء على بعض البؤر الأرهابية الخطرة / كما حصل في ضرب عصابة مايسمى بجند السماء التي كان لها دعم من الخارج و ضرب بعض بؤر ما يسمى بالقاعدة المدعومة من بقايا النظام البعثي السابق وتدريب قوات خاصة لمواجهة تلك الأخطار.. وغيرها)

بالطبع بعض العراقيين الذين لايحسنون الظن بأمريكا يعتبرون هذه الأعمال الأيجابية الجيدة التي قامت بها بعض الدوائر الأمريكية، هي أيضا من مقتضيات المصلحة الأمريكية، خاصة عندما كان عشرات الآلاف من جنودها وضباطها موجودين في العراق ولازالت آلاف أخرى من دبلوماسيها وعناصر أجهزتها الأمنية باقين في البلد، أضافة الى رغبتها في تقديم نموذج ناجح لأثبات صحة شعاراتها في نشر الديمقراطية.. طبعا توقّعاتنا للتغيير الممكن في السياسات الخارجية الأمريكية (نتيجة أحداث 11/9 وثورات الربيع العربي) والتي ذكرناها في السطور السابقة، يعتبرها البعض (وربما هو محق) نوع من السذاجة السياسية، لأن أهداف وسياسات ومصالح القوى الكبرى لاتحدّدها الأخلاقيات أومصالح الشعوب، بل تحدّدها مصالح الشركات الكبرى وخصوصا شركات النفط والسلاح ومجموعات الضغط المرتبطة بدوائر وقوى خفية تسعى لأدارة العالم وفق رؤيتها ومصالحها!! ولاندري كم ستكون فرضيتنا بوجود عقلاء ضمن الأدارة الأمريكية الحاكمة وضمن النخبة السياسية ذات الأهتمامات الأستراتيجية، خاصة في مجال بناء العلاقات المستقرة مع الدول والشعوب الأخرى.. من الذين يعطون للقيم الأخلاقية دورا أكبر في السلوك السياسي.. كم ستكون صحيحة وواقعية؟!

أن بناء عراق قوي ومستقل ومزدهر(مثلا) لايتحقق من خلال أقصاء القوى الوطنية عن مفاصل الأجهزة العسكرية والأمنية، ومن خلال تسليط مرتزقة الشركات الأمنية المشبوهة أو رجال أجهزة القمع البعثية السابقة مرة ثانية على رقاب الوطنيين وكل أبناء الشعب، ومن خلال أستمرار النشاطات المشبوهة للأجهزة السرية الأمريكية ومحاولة فرض أولويات السياسة الخارجية الأمريكية على السياسة الخارجية للنظام السياسي الجديد في العراق، خاصة في مجال علاقاته مع جيرانه ودول المنطقة!

هل حقا تقوم الولايات المتحدة الأمريكية (والدول الأوربية الكبرى) في هذه المرحلة بدعم الشعوب العربية والقوى الوطنية العربية التي قامت بثورات الربيع العربي، ومساعدتها لبناء أنظمة ديمقراطية حقيقية مستقلة ذات سيادة كاملة؟ أم أنها تعمل لنفس أهدافها السابقة في النفوذ وأستعادة الهيمنة السياسية والأمنية والأقتصادية على الدول والشعوب العربية التي أسقطت طغاتها، ولكن بوسائل وسياسات تتناسب والمستجدات التي أفرزها الربيع العربي؟ الجواب واضح ولايحدّده أنتمائنا السياسي أو موقفنا الأيديولوجي، بل تكشفه القراءة الواعية للواقع، في البحرين لازال الموقف الأمريكي داعما للسلطة المطلقة لآل خليفة وداعما لدور القوات السعودية، وفي اليمن داعما لما سُمّي بالمبادرة السعودية، والتي أدّت الى منع الشباب والثورة الشعبية من الأنتصار ومنع أنهيار كل ركائز نظام صالح الدكتاتوري والقيام بأصلاحات محدودة ومحسوبة تشرك بعض قوى المعارضة التقليدية ولكن دون تمكينها من مسك المفاصل الأساسية لنظام الحكم وتبقي النخب العسكرية والأمنية للنظام السابق وتضمن عدم ملاحقة من أرتكب جرائم القتل منهم، وأستخدام شماعة وفزّاعة القاعدة لتبرير التدخّل المباشر في الشؤون الداخلية (توجد أدلة لدى القوى الوطنية اليمنية على قيام مخابرات الرئيس المعزول صالح بدعم بعض تنظيمات مايسمّى بالقاعدة بصورة سرّية لكسب الدعم الأمريكي لصالحه).. وفي مصر بقيت الدوائر الأمريكية تواصل الضغوط على القوى الوطنية للأبقاء على دور مفصلي للمجلس العسكري الذي يضم أبرز جنرالات نظام مبارك ومنهم عدد من المنسجمين مع السياسة الأمريكية (بالطبع مع وجود ضباط وطنيين معروفين بينهم)، ولازالت بعض الدوائر الأمريكية تسعى لأيجاد شرخ بين القوى الأسلامية ذات القاعدة الشعبية الواسعة وبين باقي القوى الوطنية، وتسعى لتوظيف الحساسيات الطائفية بين الأقباط والمسلمين والضغوط الأقتصادية لصالح أهدافها وسياساتها، أضافة الى الضغط من أجل عدم المساس بمعاهدة السلام مع أسرائيل ومنع أعادة النظر فيها لأستعادة حقوق مصر والمصريين.. وفي تونس وليبيا تسعى بعض الدوائر الغربية لأحتواء المستجدات وأثارة الصراعات الجانبية فيما بين القوى الوطنية وأثارة الشبهات حولها والتشكيك بأهدافها وقدراتها، والسعي لتجريد القوى الثورية من قدراتها الميدانية التي أكتسبتها خلال الأنتفاضة الشعبية، وفي سوريا تمكنت الدوائر الأوربية والأمريكية وفي وقت مبكّر بالتعاون مع حلفاء أقليميين (السعودية وقطر وتركيا، وبعض الجماعات ذات الشعارات الجهادية المتشدّدة والتي لايُعرف بالضبط مصدر قراراتها السياسية ويُلحظ أحيانا تناغما عجيبا بين بعض توجّهاتها وتوجّهات أجهزة مخابرات دول عربية مثل الأردن وقطر وحتى تركيا! وسبق وأن تم أستخدامها وبوحشية في العراق للضغط على الشعب العراقي وقواه الوطنية)، من حرف وجهة الأحتجاجات الشعبية السلمية بأتّجاه يخدم خطط وسياسات غربية وصهيونية ورجعية عربية، تسعى لضرب جبهة الممانعة في المنطقة، وضمان حدود شمالية (لبنان وسورية) آمنة للكيان الصهيوني بعد أن خرجت الحدود المصرية من أيدي حلفاء أمريكا وأسرائيل وأصبحت معرّضة لكل الأحتمالات الخطرة على أمن الكيان.. وبالطبع الأخطاء الكثيرة والكبيرة للنظام البعثي الحاكم في سورية وتأخّر إصلاحاته كثيرا (كان من المناسب أن يبدأ النظام أصلاحاته الحقيقية بعد وفاة الرئيس السابق حافظ الأسد، بالضبط كما فعلت العديد من الدول الأشتراكية بعد أنهيار منظومة الأتحاد السوفيتي في التسعينات من القرن الماضي)، نقول ذلك التأخّر وتلك الأخطاء ساعدت كثيرا على أنحراف الأحتجاجات الشعبية الى الوجهة التي تريدها الولايات المتحدة وفرنسا وأسرائيل.. ولاندري في ظل هكذا ظروف وهكذا أدوات كيف سيتمكّن الشعب السوري المظلوم الذي يستحق كل خير، كيف سيتمكّن من الوصول الى سوريا حرّة مستقلة وذات سيادة ونظام حكم منتخب شعبيا يحقق العدالة الأجتماعية ويحترم حقوق الأنسان ويحترم الهوية الحضارية للشعب؟ وكيف يصدّق أن أمارات خليجية عربية يتوارث فيها الأبناء الحكم من آبائهم أو أخوانهم، يصرفون كل هذه الأموال ويرسلون كل هذاالسلاح الى المعارضة، لأقامة حكم ديمقراطي في سورية!؟!

هذه هي خلاصة أبرز المواقف الأمريكية المعلنة من ثورات الربيع العربي، ربما تكون للأدارة الأمريكية تبريراتها المنسجمة مع رؤيتها لمصالحها في العالم ولتحقيق الأمن ومواجهة الأرهاب وفق منظورها، وربما هي الطبيعة الأستعمار ية للقوى الكبرى التي تخشى من حرية الشعوب وأستقلال الدول وأعادة بناء المنظومات الأقليمية وفق القيم الوطنية والدينية السامية.. تلك المنظومات التي قد تسرّع في أعادة بناء الحضارة التي تعيد مركز القوة والأستقطاب العالمي من الغرب الى الشرق ذوالجذر الحضاري الممتد لآلاف السنين، على دوائر الأبحاث الأمريكية وضع دراسة محايدة (ولو كانت من منظور المصالح القومية للولايات المتحدة الأمريكية) عن الفوائد و الخسائر التي جنتها بسبب تدبيرها للأنقلاب العسكري في أيران ضد الزعيم الوطني مصدّق عام 1952، ودعمها المطلق لنظام الشاه محمد رضا بهلوي حتى يوم سقوطه في11/2/1979 م، وهيمنتها الكاملة في المجالات السياسية والأمنية والأقتصادية والعسكرية على أيران.. والفوائد والخسائر التي جنتها بسبب أنتصارالثورة الشعبية الأسلامية عام 1979م!

نحن متأكّدون من أن خسائرها الأستراتيجية وحتى المرحلية بسبب خروج أيران نهائيا من دائرة حلفائها ودخولها دائرة الأعداء.. أكبر بكثير من حجم الفوائد، وكل ذلك بسبب السياسة الخاطئة التي وقعت فيها الأدارة الأمريكية، سواء تلك المتمثّلة بأسقاط نظام مصدق الوطني أو بمعاداتها الثابتة للثورة الشعبية للجماهير الأيرانية منذ بدايات أنطلاقتها وحتى أنتصارها ولحد الآن! ونذكرالمثال الأيراني الذي يمتد تاريخه الى أكثرمن ثلاث عقود، لأن الولايات المتحدة على وشك أن تكرر التجربة في أكثرمن بلد عربي! فبالرغم من أنها شاهدت غضب الملايين من الجماهير العربية وثورتها ضد الحكام الدكتاتوريين المدعومين دوما من قبلها (أمريكا) وأصرارهم على التغيير نحو الحرية والأستقلال والديمقراطية، الاّ أنها أي الولايات المتحدة لازالت تسعى وبأساليب مختلفة للألتفاف حول مطالب الجماهير العربية، ودفع المنطقة نحو الصراعات الجانبية والأصلاحات الشكلية وضرب القوى الوطنية الحقيقية والسعي لفرض العملاء مجدّدا، وليتخيّل أولئك الباحثين كم ستتضرّر المصالح الحيوية الأمريكية أذا أنتهت ثورات الشعوب العربية وقياداتها الوطنية / وخاصة الأسلامية / في مصر واليمن والبحرين الى نفس ماأنتهت اليه الثورة الشعبية والقيادة الأسلامية في أيران!؟